الطريق إلى جنين.. وعزيزتي شيرين

عدد القراءات
800
عربي بوست
تم النشر: 2022/05/14 الساعة 11:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/14 الساعة 11:26 بتوقيت غرينتش
من جنازة الراحلة شيرين أبو عاقلة/ getty images

من يبدأ في هذا الطريق بحق يعرف كيف تكون نهايته، طريق طويل متعب، لا تتخلله الراحة ما دُمت حملت هدفاً ورسالة، مغرياته كثيرة من الشهرة والمعارف والمنافع، لكنها لا تلين لثابت صاحب مبدأ، لذا لا بد أن تكون النهاية واضحة جليّة لمن يسلكه بحقه ويسير فيه بثبات.

ذلك هو الطريق الذي سارته شيرين حتى استحقت أن يحملها المقاومون على أكتافهم دون ترتيب مسبق، فشيرين قد حفظت شوارع جنين من قبل، ألفتها مراراً في اجتياحات سابقة، سارت بين الأزقة، تدل قلوب الأمهات إلى أبنائهن، ظمئت مثلهن، تغبّرت قدماها في سبيلهن، تعرّقت ملابسها تحت الشمس فاكتست بِراً ووفاء منهن.

فلسطين لا تقيم جنازة مثل التي قامت لشيرين بكل بساطة، وجنين كذلك لا تفعل، فالعزيز لا بد أن يتأكد من أنك تستحق، وقد استحقت شيرين ذلك بقربها من كل شخص هناك، لا تجدها رغم انشغالها في عملها الصحفي مراسلةً لأكبر القنوات العربية تنشغل عن أسرة شهيد أو أسير، خاصة في المناسبات والأعياد، تتابع أبناء هذه، وترافق رحلة تلك، تتواصل هنا وهناك حتى حفرت لها في كل قلب موطئاً سهلاً كريماً.

عزيزتي شيرين أعتذر منك، فربما لن أستطيع أن أسرد عديد مواقف لك، لم نلتقِ شخصياً، ولست ممن يذكرون الأحداث التي عاشوها كثيراً، ولا حتى التي شاهدوها على التلفاز كي أقول كيف كنت في المواقف المختلفة، لكنني أذكر صوتك جيداً، وانحناءة رأسك في ختام التقارير التي أتقنتها مرة بعد مرة، وأظن أن هذا الصوت لو كان بإمكاننا رسمه ما كان يشبه شيئاً مثل حنظلة، ما زال بخفة جسده الصغير الذي لا نعرفه إلا من الخلف، وانحناءة رأسه للأمام عاقداً كفيه من خلفه، يعرف طريقه جيداً، لا يقرأ إلا فلسطين ولا يكتب إلا فلسطين، هكذا أنت، فهل مات حنظلة؟!

لدينا في فلسطين زهرة حمراء نسميها الحنون، يقال إنها نبتت مكان دماء شهداء كُثر في معركة ما فاكتسبت لونها الأحمر منه، هكذا ستنبت الزهور مكان دمائك على أرض جنين التي أحببت، هل رأيت الحنون اختفى يوماً من أرضنا؟!

تعرفين عز الدين القسام، لقد استشهد في جنين كذلك، مع بعض رفاقه، مر الزمن، وتمادى الاحتلال في غيه وإجرامه، وتسابق الشهداء بعده في تضحياتهم وشجاعتهم، هل رأيت جنين تركت فخرها يوماً به، أو تنكرت له بلدة يعبد؟!

هل تذكرين صورة العشاء الأخير لأبطال مقاومة جنين قبل استشهادهم في ذلك الاجتياح، لقد أرادها الاحتلال كعشاء يسوع الأخير بعد خيانة الأقربين، لم تنقطع خيانتهم للأنبياء والشهداء حتى الآن، ولم يغادر أبطال جنين حتى أثخنوا فيهم، ما زال "أبطالنا" يتناولون عشاءهم قبل كل عمل يُؤلِمون فيه المحتل، لكننا لا نخون، هل رأيتِنا تخلّينا يوماً عن عيسى ابن مريم؟!

عزيزتي شيرين، قد لا نذكر البدايات، لكن النهايات تبقى محفورة للأبد في ذاكرة الأجيال، قالوا قديماً يموت الكبار وينسى الصغار، لكن هؤلاء الصغار هم الذين نَقلتِ أخبارَهم وحاورتِ أمهاتهم وسجلتِ بطولاتهم مرة بعد مرة، لعل قربك منهم هو من صنعك ورفعك إلى مرتبة الكبار حتى استحققتِ كلَّ هذا الحب والقرب والدموع التي ذرفت لأجلك، قد ينسى الصغار الصورة، قد تبهت مع التقادم، لكن هل رأيتِ حبيباً نسي صوت حبيبه؟!

شيرين أبو عاقلة التي جذورها من بيت حنينا، ونشأتها في القدس، واستشهادها في جنين، شيرين الجميلة التي تعرفها كل فلسطين وكل حر في العالم، ينبه صوتها حتماً أن هناك خبراً مهماً من فلسطين، فتصمت الأفواه وتُصغي القلوب قبل الآذان، هل يمكن لصحفي أن يحظى بكل ذلك الود والحب لولا أنه ربط نفسه برباط مقدس مع قضية مقدسة تهوي إليها الأفئدة ليل نهار، هل رأيت قلباً لا يهبط في ساحة البراق أو القيامة؟!

شيرين التي لم نعترض يوماً على مصطلح لها ولا عبارة قالتها، كانت تتحدث عنا وتكتب على صفحتها بلغتنا، وترى فلسطين كما نراها، تعرف لفظ الشهيد والمقاوِم، تعرف الأحداث والأزقّة، تعرف الأمهات ويعرفنها، كل تقرير لها يخبر عنا، عن وجعنا، وأحلامنا، وغدر الاحتلال بنا، هل كانت تعرف في أول يوم لها قبل ثلاثين عاماً أنها تصنع مجدها بعفوية وحب لا تصنُّع فيه ولا رياء، فاستحقت كل هذا الثناء والرثاء؟

شيرين الفتاة الشابة التي اختارت أصعب المهن وأعقدها في فلسطين، رأت الموت حتى ألفته، لم يعد شيء يخيف، فالموت يخشى الهيبة، قد يستولي على الجسد، لا قوة لنا على ذلك، لكن لا قوة له على تخليد الذكريات لمن رسم نهايته بعزة وفخر.

كلنا سنموت يوماً يا شيرين، نحن الجيل الذي نشأنا على صوتك، وتدربنا مراراً أمام بعضنا على تقليد نبرتك، وخاتمتك للتقارير التي كان يحلو فيها النغم، فشيرين تشبه فلسطين، نمد فيها الياء والنون وكأننا نمد ذراعينا حول جراحنا تواسيها، كلنا أصابنا الشيب، وخطّت الشمس خطوطها في وجوهنا، ورسمت فلسطين حواريها على جباهنا، كنتِ قدوتنا في التعرف عليها والتقرب منها، وصرت قدوتنا في خاتمتك كذلك، لكن لا نعرف هل ستمنّ علينا فلسطين بمثل ما منت به عليك وكرمتك؟!

هكذا نختم يا شيرين كما بدأنا، آخر كلماتك كانت الطريق إلى جنين، لا شرح أكثر ولا حديث يحتاج إلى تفاصيل، الطريق إلى جنين واضحة بدايتها ونهايتها، والطريق إلى فلسطين يمر من جنين، لا بد من بعضنا يروي زهور الحنون، كي لا تذبل، لا بد من بعضنا يعبّد الطريق للبقية، يتقي لنا بصدره رصاص الغادرين، نحن قد ننسى بعضنا، لكن لا ننسى الطريق إلى جنين يا عزيزتي.. شيرين، سلام عليك، من كل فلسطين.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

دعاء عمار
كاتبة وصحفية فلسطينية
كاتبة وصحفية فلسطينية
تحميل المزيد