في كل مناسبة وطنية سنوية تمر على المغاربة، لا بد أن تصادف في استحضار تلك المناسبات المجيدة صوراً تؤرخ لها، سواء في نشرات الأخبار أو على شبكة الإنترنت والمجلات والجرائد، وتحضرنا هنا ذكرى الملحمة الأسطورية المسيرة الخضراء بصورها التاريخية التي تشهد على بطولة وتضحيات وطنية، صور أبطالها وجوه ذات ملامح مغربية أصيلة.
كما قد تصادفنا صور للراحل الحسن الثاني تارة في عنفوان شبابه بنظرات ممتلئة بالثقة وابتسامة التحدي وحماس الشباب، وتارة في صور عائلية برفقة بأطفاله الأمراء صغاراً ثم شباباً في زمن آخر، وصورة أخرى له في مرحلة عمرية متقدمة وهو على متن باخرته "مراكش"، وقد تستوقفك صورة للملك محمد الخامس بالديار المقدسة وهو يؤدي مناسك العمرة، وصورة أخرى له وهو يعاين أضرار زلزال أكادير، أو يتناول وجبته على متن طائرته الملكية بهندامه الباعث على الوقار، وصورة لفرحة الأطفال بزيارة محمد السادس.
كما لن تفوتك معاينة صور نجوم الشرق وهم ينجذبون إلى التقاليد المغربية الأصيلة، كصورة عبد الحليم حافظ وهو يصب الشاي المغربي، وسعاد حسني وصباح وهما ترتديان القفطان التقليدي، ولن تخفى عنك صورة بابا الفاتيكان وهو يزور المغرب ملتقياً في لقاء التعايش والسلام الحسن الثاني، هي صور لها مصدر واحد ووحيد وهو المصور العبقري "محمد مرادجي" الذي يسافر بك عبر الزمن بآلته للتصوير ذات الطراز الكلاسيكي وأنت في مكانك.
المنشأ واليتم المبكر واكتشاف الشغف
وُلد "محمد مرادجي" سنة 1939 بالمدينة القديمة للدار البيضاء، يقول مرادجي إن الله سبحانه وتعالى لم يكتب له أن ينطق كلمة "بابا" مثل أقرانه، فقد مات والده قبل مجيئه إلى الحياة بوباء التيفوس المنتشر بالمدينة آنذاك، لكنه يفتخر أيما افتخار بوالدته التي لعبت دور الأب أيضاً، أصبح الصبي "محمد" رجلاً منذ طفولته وهو الذي جرّب مختلف الحرف من أجل كسب لقمة عيشه وقوته اليومي بعد انقطاعه عن التمدرس، من نجارة وصباغة وخياطة، قبل اكتشافه بالصدفة للشغف الذي سيرافقه طيلة حياته وهو التصوير.
فقد كان "مرادجي" في منتصف خمسينيات القرن العشرين يتجول في شوارع وأزقة مسقط رأسه ملتقطاً صوراً خالدة ببصمة "مرادجية" مميزة وهو بالكاد يبلغ مراهقته، يقول محمد دائماً إنه لم يكن يضع في حسبانه أن تلك الصور ستكون فيما بعد قاعدة للأرشيف التاريخي المغربي سياسياً ورياضياً واجتماعياً وفنياً، خصوصاً أنه كان يقوم ببيع ما يلتقطه من صور بدرهم واحد للصورة لا غير.
دخول الحياة المهنية من أوسع أبوابها
بعد عودة الملك محمد الخامس من منفاه، كان "محمد مرادجي" يقوم بتغطية زياراته لمدينة الدار البيضاء وباقي المدن المغربية وخارج أرض الوطن كزياراته إلى القاهرة والقدس ويلتقط صوراً رائعة لتلك الزيارات، ولم يكن المغاربة في تلك الحقبة الزمنية يتعاطون مع التصوير الفوتوغرافي الذي كان حكراً على الأجانب وخاصة الفرنسيين، الشيء الذي جعل "محمد مرادجي" شخصاً مميزاً وفريداً آنذاك ومحل ترحاب من طرف العائلة الملكية.
في سنة 1959، سيقوم مصورنا العصامي بفترة تدريبية بمدينة باريس الفرنسية لدى وكالة "كيسنون" الرائدة في مجال التصوير بعدما أثار إعجاب الأخيرة التي اقترحت عليه قضاء الفترة التدريبية لديها التي دامت ستة أشهر، وهي الفترة التي ستعرف التقاط مرادجي صوراً تاريخية لمشاهير فرنسيين على رأسهم "شارل أزنافور" و"أديث بياف"، وقد أنشأ محمد مرادجي سنة 1961 وكالته للتصوير، وهي أولى وكالات التصوير الصحفي بالمغرب وكان يبيع صوره إلى مختلف المجلات والجرائد المحلية منها والعالمية.
ديناصور التصوير المغربي
بدأ المصور "محمد مرادجي" يكسب احترام الناس وعرفانهم وبدأ يعد رمزاً للتصوير في بلده، فيقال بالعامية المغربية "مالي أنا هو مرادجي؟!"، عبارة يرددها المغربي لصديقه إذا لم تعجبه صورة التقطها له، في إشارة إلى عدم وجوب المقارنة.
وقد بدأ الناس يعرفون مرادجي بكونه مصور الملوك، ففي سنة 1960 سيستدعي الملك محمد الخامس مرادجي لمرافقته لأداء مناسك العمرة، فضلاً على تخليده لأنشطة وزيارات الملوك الثلاثة، محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس، وتخليده لليوم الذي اجتمع فيه الملك محمد السادس وابنه الأمير الحسن وشقيقه الأمير رشيد النور، ورافقت عدسة مرادجي الملك الحسن الثاني من ريعان شبابه ولحظات ملكه الأولى إلى آخر ابتسامة له قبل وفاته بأيام خلال زيارته لفرنسا سنة 1999.
اكتساب عدسة "مرادجي" لصفة الملكية ما زال إلى يومنا هذا بحيث لا تزال تعمل بنفس حماس البدايات مع الملك محمد السادس وولي عهده الحسن ملتقطة صوراً خالدة أخرى.
كما كان مصورنا الاستثنائي وراء أشهر الصور للفنانين المغاربة والأجانب، فقد قام مرادجي بتصوير نعيمة سميح وعبد الهادي بلخياط وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد شوقي وغيرهم، مكوناً صداقات مع هؤلاء الفنانين، وتحضرنا قصة صورة أم كلثوم وهي تسقط على المسرح وإلحاحها على مرادجي من أجل عدم نشر تلك الصورة حتى وفاتها، وإهدائها منديلها الشهير بطلب منه.
أتاحت عدسة مرادجي له أن ينال عدة أوسمة ملكية من طرف الملك الحسن الثاني ومحمد السادس، كما نال أوسمة من الرئيس الفرنسي جاك شيراك والملك الإسباني خوان كارلوس، دون إغفال تصويره لسياسيين عالميين مثل الرئيس الأمريكي جون كينيدي والرئيس الفرنسي شارل ديجول. إنجازات مهنية وشخصية قل نظيرها دفعت مجلة "فوتوغرافيك" الإنجليزية بلقب "ديناصور التصوير المغربي"، ولقبته مجلة "جون إفريك" الفرنسية بلقب عين المغرب.
مرادجي والمسيرة الخضراء
عاش الشاب محمد مرادجي حدث المسيرة الخضراء بكل تفاصيلها، فقد حضر ابن السادسة والثلاثين حينها خطاب الملك الحسن الثاني بقصر مدينة مراكش، الخطاب الشهير الذي أعلن فيه عن تنظيم مسيرة سلمية إلى الصحراء المغربية بنظام وانتظام، كما شارك مرادجي في المسيرة الخضراء كمتطوع ومصور، فكان وراء مئات الصور المؤرخة للحدث الاستثنائي.
صور شاهدة على ملامح مغربية قدِمت تطوعاً من كل أنحاء المملكة المغربية صوب قِبلة واحدة وهي الأقاليم الجنوبية بالمغرب، فكانت وراء كل صورة حكاية وقصة إنسانية تروي ملحمة مغربية بامتياز.
يقول محمد مرادجي بعد أربعة عقود من الملحمة، إنه عند تصوير المسيرة الخضراء كانت الصحراء مجرد صحراء قاحلة وأصبحت الآن مدنها مثل المدن المغربية الداخلية، وإنه سيظل وفياً لتصوير الصحراء حتى تصبح مدنها من المدن الكبرى بإفريقيا.
مرادجي والتأليف
قام محمد مرادجي بخطوة مهمة في مسيرته، وهي توثيق صوره الشاهدة على مراحل مهم من التاريخ المغربي الحديث، كنوع من الفهرسة والترتيب.
ألف مرادجي سنة 2008 كتاب "50 سنة من التصوير: محمد مرادجي شاهد على العصر" الذي يوثق لمرحلة نصف قرن من الصور التاريخية، كما أصدر كتاب "الملوك الثلاثة" سنة 2017 موثقاً فيه صوره الملكية ذات المعاني الوطنية وروح التفاني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.