في أعقاب التقرير الذي نشرته صحيفة "الغارديان"، والذي يوثق بالصوت والصورة والشهادات قتل 41 مدنياً سورياً وفلسطينياً بدم بارد في عام 2013، على أيدي ضباط الفرع "227" التابع لمخابرات الأسد في حي التضامن، جنوب العاصمة السورية دمشق، بات السؤال ملحّاً عن ضرورة الإضاءة على نشأة هذا الحي وتركيبته السكانية، انطلاقاً من كونه سياجاً فقيراً في دمشق، وعن علاقته بها بوصفها عاصمة، وبمخيم اليرموك المجاور له، مروراً بالأيام الأولى لاندلاع الثورة السورية، ومشاركة أبناء الحي من سوريين وفلسطينيين في الحراك الشعبي، وصولاً إلى توثيق جرائم النظام المتدرجة والممنهجة بحق الأهالي.
الموقع والنشأة
يقع حي التضامن خارج البوابة الجنوبية لمدينة دمشق القديمة، على أطراف حي الميدان الدمشقي، وإلى الجنوب الغربي من حي باب شرقي، ويتبع الحي إدارياً محافظة دمشق؛ إذ يحده من الشمال حيَّا دف الشوك والزاهرة، ومن الجنوب بلدة يلدا وامتداد شارع فلسطين، ومن الشرق بلدة بيت سحم وحي سيدي مقداد، وغرباً يحده مخيم اليرموك الذي كان أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين قبل أن يدمره نظام الأسد ويهجر سكانه بدعم روسي وإيراني.
لم يكن هناك قبل عام 1974 حيٌّ يطلق عليه "التضامن"، بل كانت بداية نشأة هذا الحي مقترنة بنشأة مخيم اليرموك وجزءاً منها، وتأسس المخيم في منتصف الخمسينيات في أعقاب نكبة الشعب الفلسطيني عن أرضه (1948)، وتجمع الكثير من اللاجئين الفلسطينيين في دمشق ومحيطها؛ حيث تقرر إعادة تجميعهم في منطقة واحدة داخل العاصمة، حيث استأجرت الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب في سوريا، والتي كانت تتبع وزارة الداخلية آنذاك قطعة أرض كبيرة يملكها آل الحكيم وآل المهايني إلى الجنوب من حي الميدان، وكانت تتبع من حيث التقسيم العقاري مدينة دمشق (شاغور بساتين)، ودفعت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين "أونروا" كامل التكاليف المالية.
وبالعودة إلى التضامن؛ فإن نشأته الأولى مثلت شريطاً بخط مستقيم، يمتد من منطقة جامع البشير عند مدخل شارع فلسطين الحالي شمالاً، مروراً بشارع فلسطين وامتداده، وصولاً إلى مفترق مسجد أمهات المؤمنين قبالة بلدة يلدا جنوباً، وبعمق لا يتجاوز أكثر من 300م في حينها.
إلا أن التداخل بين الحي ومخيم اليرموك كان سمة دائمة؛ حيث إن شارع فلسطين كان ولا يزال جزءاً من اليرموك ومدخلاً مهماً إلى حي التضامن في آن معاً، وهو ما يجعل البعض يصعب عليهم الفصل بين المنطقتين جغرافياً وسكانياً.
وعلى الضفة الشرقية من الشارع منازل تطورت مع الوقت إلى طوابق غالبية سكانها من قرى قضاء الناصرة، وخاصة قرية عيلوط وقرى قضاء حيفا، وخاصة طيرة حيفا والطنطورة. ومع اتساع عملية الإعمار إلى الشرق من شارع فلسطين أصبح عمق منطقة التضامن نحو 300 متر؛ ليتسع الحي بعد نكسة يونيو/حزيران 1967، ومن ثم مرة أخرى في عام 1970. وفي عام 1974 اعتُرف بحي التضامن حياً تابعاً للدائرة العاشرة في محافظة دمشق.
من أهم ما اتسم به الحي هو البناء العشوائي غير المنتظم، وهذا ما يفسر بوجود أجزاء منه أطلق عليها اسم "الطبب"، للإشارة إلى الاستحواذ العشوائي على الأراضي من قبل قاطنيها، والبناء عليها والسكن لاحقاً.
وتحولت تلك العشوائيات بعد السبعينيات إلى أمر واقع مع التزايد في أعداد السكان، دون أن يعير النظام السوري منذ أيام الأسد الأب أي اهتمام لمحاولة تنظيم المنطقة وتحسين واقعها المعيشي أو الخدمي، وهو حال ينسحب على كثير من المناطق السورية المعروفة بـ"السياج الفقير" وضواحي المدن.
ولعل عدم سماح الحكومة بالبناء العمودي العالي هو ما سبب البناء الأفقي في الحي، وساهم في تفاقم العشوائيات، قبل أن يشهد الحي فورة عمران طابقي معظمه غير مرخص، وذلك بعد التسعينيات، ووصلت مساحة حي التضامن لاحقاً، أي بعد عام 2000م، إلى أكثر من 1.5 كيلومتر مربع.
أدخلت الخدمات من ماء وكهرباء وصرف صحي إلى الحي في بداية السبعينيات، ولكنها ظلت سيئة وضعيفة، بشهادة الأهالي، طيلة عهدي الأسد الأب والابن، وصولاً إلى عام 2011 واندلاع الثورة السورية، حيث مثل ضعف الخدمات وعشوائية العمران في التضامن ذرائع لنظام الأسد لاستهدافه من خلال هدم العشوائيات وقطع الخدمات أو إضافة الفواتير؛ انتقاماً من الأهالي الذين شاركوا في المظاهرات والثورة الشعبية.
ولا يحتوي حي التضامن على سوق حقيقي، سوى في المنطقة المعروفة لاحقاً بسوق السبورات ومحيط مدرسة إسكندرون، وهو سوق محدث في التسعينيات، ساهم في ظهوره التصاقه بالعاصمة دمشق شمالاً، ومخيم اليرموك، العصب التجاري لجنوب دمشق، جنوباً وغرباً، ولكن الحال كان مغايراً في وسط الحي؛ حيث كان مجرد منطقة سكنية.
السكان والتوزع الديمغرافي
مثّل الفلسطينيون نسبة عالية من سكان حي التضامن؛ كونهم يمثلون النواة البشرية الأولى لتأسيس الحي الملاصق والممتد عن مخيمي اليرموك وفلسطين؛ إذ شكلوا على الدوام حوالي ربع عدد السكان (25%)، وغالبية الفلسطينيين في التضامن ينحدرون من قرى في قضاء حيفا والناصرة، وهم امتداد للعائلات الفلسطينية القاطنة في مخيم اليرموك.
بدأ توافد فئات سورية من مناطق عديدة، وتنتمي لقوميات وطوائف متنوعة، منها التركمان والدروز إلى الحي، تركزوا في المناطق الشمالية منه، وزادت الأعداد على مر الوقت بسبب الزيادة الطبيعية من جهة، وهجرة أهل الريف للمدينة، فضلاً عن سكن صغار الكسبة والموظفين، ودون إغفال إسكان واستيطان العسكريين والضباط والشرطيين وموظفي النظام في محيط العاصمة والسياج الفقير لأسباب اقتصادية من جهة، بسبب رخص الإيجارات والمعيشة، وأمنية من جهة أخرى لحماية النظام والسيطرة على الفئات القاعدية.
وساهم إسكان عدد كبير من الجنود والضباط ومتطوعي الأمن والشرطة في ارتفاع أعداد السكان، وذلك بعد عام 1970، أي وصول حافظ الأسد إلى السلطة، دون أن يشهد الحي بالتوازي أي تطوير للبناء أو الخدمات.
كما استحوذت المنطقة على موظفين وعمال مهنيين أتوا من درعا ودير الزور وإدلب وجسر الشغور وغيرها من المدن والقرى السورية للعمل في دمشق، مثَّل حي التضامن، رخيص التكاليف بالنسبة لها، منطقةَ جذب.
وبعد عام 1967 واحتلال "إسرائيل" للجولان السوري، نزح آلاف السوريين من أهالي الجولان إلى مناطق متعددة في دمشق وريفها، ولا سيما إلى حي التضامن. ومثّلَ ما يسمى "شارع نسرين"، الذي تأسس في شمال حي التضامن، نقطة تجمع لهم، وكانت غالبيتهم من أبناء الطائفة العلوية التي نزحت من هضبة الجولان؛ إذ يشكل العلويون ما نسبته 3% من إجمالي عدد أهالي الجولان الذين قدر عددهم بنحو 90 ألف نازح سوري في عام 1967، أكثر من 90% منهم هم من المسلمين السنة، في حين لا يزال يقطن أبناء الطائفة الدرزية من أهالي الجولان في 5 قرى محتلة.
وشهد حي التضامن تعايشاً وانسجاماً بين مختلف قاطنيه من كل المناطق والطوائف، كما أن هناك حالات تزاوج بين مختلف التشكيلات التي سكنت الحي، بما فيها من فلسطينيين وسوريين. وفي عام 2012 بلغ عدد السكان حوالي 420 ألفاً، وفقاً لمصادر غير رسمية.
خلفية إسكان العسكريين
بدأ توافد الضباط والشرطة وكثير من المحسوبين والعاملين في الدولة مع استيلاء عائلة الأسد على السلطة، ويرجح أن تزايدهم كان بصورة طبيعية، وكذلك بحكم انتقالهم لمكان أرخص، ويرى البعض أن هناك عمليات دفع من قبل النظام جرت خلال العقود الماضية لإسكان حماة منظومته الأمنية والعسكرية في سياج دمشق لاحتواء العاصمة وسكانها، وهو ما يحول جزءاً من الزيادة السكانية والهجرة من الأرياف للمدينة إلى حالة "استيطان" لأغراض إحلالية وأمنية، لتنشأ مع الوقت طبقتان بسيطتان داخل هذه المناطق، هما الطبقة الفقيرة والوسطى العامة التي تمارس المهن أو تتلقى التعليم، وولاؤها شعبي خالص ليس فيه بُعد سياسي، بموازاة طبقتين فقيرة ومتوسطة خادمتين لنظام الحكم تتعايشان معاً بصورة نسبية، لكن ضمن وعيين مختلفين لواقع الحال والموقف تجاه السلطة، بحكم "الولاء" الناتج عن الممارسة اليومية، دون إنكار وجود حالات استثنائية في الفئتين.
التهجير والتغيير الديمغرافي
في عام 2012 تبدل الواقع السكاني لحي التضامن؛ إذ نزح معظم سكانه؛ فمنهم من عادوا إلى مدنهم وقراهم الأصلية بسبب اشتداد القبضة الأمنية وقمع النظام وخشية الاعتقال والقتل، ومنهم كثر نزحوا أيضاً إلى مخيم اليرموك؛ هرباً من القصف والمعارك، وكذلك عاد معظم السكان من أهالي السويداء الدروز إلى مدنهم وقراهم هرباً من المعارك والقصف.
وفي المقابل تزايدت أعداد قاطني شارع نسرين بالتوازي مع تهجير الأكثرية في الحي، غير أن القاطنين في "نسرين" هم عبارة عن مقاتلي النظام وشبيحته وضباطه، وهم من الطائفة العلوية في معظمهم، أو من الشيعة التابعين لإيران، وتنضوي مهمتهم على قمع الثورة وقصف المناطق المتمردة ونصب الحواجز التي مثلت نقاط تصفية وإعدامات وخطف للمدنيين من أهالي التضامن والأحياء المجاورة، وشهدت تلك الحواجز وقوع العديد من الجرائم الموثقة منذ عام 2012م.
كما تغيرت طبيعة التعايش بين السكان إلى حرب واقتتال بفعل التحريض الممنهج بدرجة رئيسة من النظام وأجهزة مخابراته لمواليه في منطقة نسرين خصوصاً لمواجهة المعارضين والثوار؛ خشية "التهجير وسقوط الحكم وتحول الأقليات إلى فئات مضطهدة من الأكثرية السنية"، وهي مزاعم عامة غير معلنة يقتنع بها كثير من شبيحة الأسد، ولا سيما المنتمين للأقليات الدينية.
حي التضامن والثورة
مع انطلاق المظاهرات والثورة الشعبية في عموم سوريا وفي مختلف أحياء دمشق، شهد الحي احتجاجاتٍ سلمية، وكانت المظاهرات تتركز بشكل رئيس في شارع دعبول، أكبر شوارع حي التضامن، حيث خرجت تضامناً مع درعا وحمص وبقية المناطق السورية، وتأخر الحي نسبياً في الانخراط بالثورة، حيث كانت بدايات المشاركة في أواخر عام 2011 وبدايات 2012م، ليرد النظام على ذلك عبر إنشاء "مجموعات الشبيحة"، وهي ميليشيات قامت بقمع الاحتجاجات بطريقة شديدة العنف، وأطلق لهم يد الدعم في سبيل ذلك.
كان النظام الذي لم يسعَ إلى تحسين حي التضامن وتخليصه من العشوائيات والاكتظاظ وسوء الخدمات؛ قد استخدم هذه الأزمات وسيلةً للانتقام من الثوار وأهلهم؛ إذ استخدم مقاتليه والموالين له القاطنين في شارع نسرين لتدمير الحي وقتل سكانه وقمعهم، عبر تدمير كيدي انتقامي في بدايات وأواسط عام 2012م، وهو ما حدث بالفعل في حي سليخة شرق التضامن؛ حيث دمر الشبيحة البيوت بالمفخخات، ثم جرفوها فيما بعد انتقاماً من الثوار بذريعة "البناء المخالف".
ويشار إلى أن الضابط في الحرس الجمهوري عصام زهر الدين، وهو من الطائفة الدرزية، والذي قُتل لاحقاً، كان يشرف على العمليات في حي التضامن وجنوب دمشق في تلك المرحلة.
وفي أواسط 2012 اضطر الأهالي لحمل السلاح ضد النظام بعد اشتداد القمع والقبضة الأمنية عليهم، فدارت عدة معارك بدايتها في شهر يوليو/تموز ثم في سبتمبر/أيلول؛ لتتمكن المعارضة المسلحة من السيطرة على أجزاء واسعة من الحي في الربع الأخير من العام المذكور.
في هذه المرحلة انتقل شبيحة نسرين إلى مرحلة تدمير الحي عبر القصف بالقذائف والصواريخ التي نصبت في حيهم، وكذلك بنصب الحواجز التي مثلت وفقاً لناشطي "الثقب الأسود" الذي يستهدف مدنيي التضامن والمناطق المجاورة، عبر اعتقالهم عشوائياً، وتعذيبهم والتنكيل بهم؛ انتقاماً وعقاباً على انخراط أهالي الحي في الثورة، بغض النظر عن مشاركة المعتقلين في المظاهرات والثورة من عدمها.
بعد هذا القمع؛ اتسع الشرخ بين السكان من جهة والمنتفعين من النظام وشبيحته والمقاتلين معه من جهة أخرى، وكان هؤلاء الشبيحة في حي التضامن عبارة عن أداة قتل وتدمير "ذات طابع أقلَّوي"؛ لتنتقل مراحل تدمير الحي إلى القصف الجوي والحصار لاحقاً، فضلاً عن تكثيف الإعدامات الميدانية للمدنيين الذين يوقفون أثناء محاولاتهم الدخول أو الخروج من وإلى المنطقة.
وتدرجت محرقة النظام في تصاعدها ضد حي التضامن وجواره، بعلاقة تناسبية مع تصاعد الثورة السورية ضد حكم الأسد، بدءاً بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، انتقالاً إلى مرحلة خطفهم وتعذيبهم أو قتلهم وسحلهم في الشوارع، مروراً بالاغتيالات، إضافة إلى مرحلة شهدت قنص العشرات من المدنيين من أبناء التضامن خلال هروبهم عبر شارع فلسطين باتجاه مخيم اليرموك من المعارك الدائرة في حيهم، وصولاً إلى مرحلة من الأهالي بتدمير البيوت التي ذُكرت سابقاً، ومن بعدها التهجير والقصف والتدمير والخطف على الحواجز والإعدامات الميدانية؛ إذ أصبح القتل يستهدف المدنيين المنحدرين من مدن وأماكن ذات هوية "سنيّة"، فيما تقولب ضباط النظام وشبيحته في الحي ليكون معظمهم منحدرين من مناطق ذات هوية "أقلوية"، وغالباً ينتمون للطائفة العلوية.
وهذا وقع بحكم أن تركيبة النظام السوري تحمل طابعاً أقلوياً، وتحفّز أبناء الأقليات، ولا سيما "العلويين"، بطرق غير مباشرة ومن خلال بث الشائعات، على الانضواء تحت رايته، والدفاع عنه؛ خشية مزاعم "الاندثار والاضطهاد" للأقليات في حال سقوط النظام في مواجهة أكثرية سنية افتعلت الثورة، بحكم أنها أكثرية السكان، ثم اتهمت هذه الأكثرية، بطريقة غير مباشرة بثها النظام، أنها "حاضنة شعبية للعصابات الإرهابية المسلحة"، والمقصود بالعصابات مجموعات المعارضة والجيش الحر والحاضنة الشعبية هم أهالي تلك المناطق الثائرة. وجُرِّم بهذه الطريقة معظم الشعب السوري وفلسطينيي سوريا من قبل القائمين على نظام الأسد ووصموا بـ"الإرهاب"؛ لمجرد انتمائهم إلى شريحة دينية تمثل أكثرية السوريين الذين شاركوا في الثورة في حقيقة الأمر بصورة غير فئوية، وبما ينسجم نسبياً مع تركيبة الشعب السوري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.