فسّر مسألتها بعبقرية شديدة.. كيف نظر محمد عابد الجابري إلى العلمانية؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/05/04 الساعة 11:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/04 الساعة 11:58 بتوقيت غرينتش

لقد كان محمد عابد الجابري– رحمه الله- مفكراً حداثياً دارساً للتراث الفكري العربي الإسلامي، وصاحب رؤية حداثية من داخل التراث؛ إذ إنه كان يؤكد دائماً أن "التجديد لا يمكن أن يتم إلا من داخل تراثنا"، هذا التراث وكيفية التعامل معه هو الذي شغل تفكير الجابري منذ أولى محاضراته في رحاب الجامعة المغربية التي كان يقدم فيها الدرس الفلسفي؛ حيث جاء هذا الهم الفكري والمعرفي حول التراث، عبر أسئلة طلابه المؤرقة والموجعة، فقد كانت آنذاك الجامعة المغربية في أواخر الستينات وأوائل السبعينات يُقدَّم فيها الدرس الفلسفي على أحسن صورة، كما أنها كانت فضاءً علمياً رحباً، يزكّي التفكير النقدي بدل التنميط والقولبة لأدمغة الطلاب.

فقد كانت هذه الأسئلة بمثابة موقظ أو موجه للجابري نحو التفكير والتقصي والبحث العلمي الجاد والرصين في قضايا التراث الفكري والفلسفي العربي الإسلامي؛ إذ تمّم ذلك بمشروع فكري ضخم متكامل يمتد على مدى عقدين أو يزيد، فقد عالج فيه الجابري المواءمة بين التراث والحداثة وكيفية استيعاب معطيات الحضارة الغربية والفكر الغربي، ومعالجة وتأصيل المفاهيم الغربية وتبيئتها كمفهوم الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان والعلمانية.

كانت للجابري طروحات فكرية فريدة؛ منها طرحه وتناوله لمسألة العلمانية باعتبارها تعبيراً صادراً عن الخطاب العربي المعاصر، رغم أن هذا اللفظ حسب الجابري ليس فيه من اللغة العربية إلا الصياغة، وأن تاريخ هذا المفهوم مرتبط بتجربة حضارية مختلفة عن تجربتنا الحضارية العربية الإسلامية، وأن العلمانية كمفهوم تم توظيفه في السياق العربي، لا يعبّر عن حاجات ذلك السياق وإنما يجب استبدال الديمقراطية والعقلانية به.

العلمانية كجزء من التشكيل الحضاري الغربي

يرى الجابري أن شعار "العلمانية" يحيل لفظه إلى مضمون لا يشكل جزءاً، كبيراً أو صغيراً، من الموروث العربي الإسلامي؛ حيث إنه "يستحيل وضع مقابل صحيح ومقبول باللغة العربية له"، ويضيف الجابري أن لفظ العلمانية في الخطاب العربي هو تحايل لغوي لتحميل هذا اللفظ معنى لا مرجعية له في اللغة العربية. فهو لفظ يعبّر عن سياق حضاري آخر له خصوصياته، وقد حدّده الجابري في تعبيرين شائعين هما "اللائكية" و"السيكولارية". فالأولى تعني عدم الانتظام في سلك الكهنوت الكنسي، فهذا اللفظ يتسم بخصوصيته في التجربة الفرنسية ذات الكنيسة الكاثوليكية؛ لأنه جاء كنظام لإبعاد الكنيسة من ممارسة السلطتين السياسية أو الإدارية، وبالخصوص إبعادها من تنظيم التعليم.

أما اللفظ الثاني "السيكولارية" sécularisation فقد كان مرتبطاً بالتجربة الألمانية والأنجلوساكسونية (إنجلترا وأمريكا) حيث سادت البروتستانتية. وهو بذلك أكثر مرونة عن نظام اللائكية، ويدل على أن هناك تحولاً اجتماعياً يتم في مجال الدين نفسه ويتمثل "في تراجع سلطة الدين بسبب عدم التوافق بينه وبين روح حضارة مبنية على التكنولوجيا".

وبهذا يؤكد الجابري أن مضمون أو مضامين شعار العلمانية مرتبط بظاهرة دينية حضارية لا وجود لها في التجربة الحضارية العربية الإسلامية، وأكثر من ذلك يشجبها الإسلام، وهي ظاهرة "الكنيسة" بوصفها جهازاً تراتبياً هو المرجع في الشأن الديني يمارس سلطة روحية على الأفراد من خلال العلاقة بين الله والإنسان والتي يتوسطها "رجل الدين"، وهذا غريب تماماً عن الدين الإسلامي الذي يقوم على علاقة مباشرة بين الفرد البشري وبين الله، فهو لا يعترف بأي وسيط، وليس فيه سلطة روحية من اختصاص فريق وسلطة زمنية من اختصاص فريق آخر. هذا ما جعل الجابري ينادي بتبيئة شعار العلمانية في مجالنا الحضاري المنقولة إليه.

الحاجة إلى الديمقراطية والعقلانية في العالم العربي بدل العلمانية

من حيث الظروف التي طُرح فيها شعار "العلمانية"، حسب الجابري، كانت ظروفاً طارئة لا ظروفاً متأصلة في الواقع العربي، ومنها أول ما طرح في المشرق العربي الحديث، في منتصف القرن التاسع عشر؛ حيث تمت المناداة بالعلمانية من طرف مفكرين مسيحيين من الشام حملوا شعار "الاستقلال عن الترك" كتعبير عن قيام دولة عربية واحدة (على الأقل في المشرق) منفصلة عن الدولة العثمانية، وبهذا فقد كانت العلمانية شعاراً يدعو به دعاة "العروبة" إلى الانفصال عن سياسة "التتريك" العثمانية، وليس القصد من ذلك استبعاد الإسلام ولا الدين.

وفي إطار آخر يورده الجابري، فقد طُرح شعار العلمانية من طرف مفكر عربي مسيحي من رواد النهضة العربية الحديثة وهو بطرس البستاني الذي دعا إلى العلمانية في سياق تعليق له على الفتنة الطائفية التي اشتعلت نارها في لبنان سنة 1860 بين المسيحيين والدروز، حيث ارتأى أن الحل لمشكل الطائفية الدينية في لبنان هو الفصل بين الدين والسياسة.

ودلالة هذا عند الجابري، أن مسألة العلمانية قد طُرحت في العالم العربي، في القرنين الماضيين، طرحاً مزيفاً كونها شعاراً ملتبساً لم يكن يعبّر عن حاجات المجتمع العربي. وبهذا نادى الجابري باستبعاد شعار "العلمانية" من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري "الديمقراطية" و"العقلانية" كونهما يتطابقان مع حاجات المجتمع العربي في تلك الفترة وحتى في حاضرنا الآن، حيث نحن في حاجة إلى الديمقراطية التي تعني لدى الجابري حفظ الحقوق، حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية التي تعني الصدور في الممارسة السياسية والدينية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج، ويؤكد الجابري أن هذه المفاهيم تتصالح مع الإسلام، "فلا الديمقراطية ولا العقلانية تعنيان بصورة من الصور استبعاد الإسلام".

ونختم هنا بالقول إن استراتيجية محمد عابد الجابري هذه ومقاربته للعلمانية، هي في واقع الأمر دعوة لإعادة بناء الفكر العربي من الخليج إلى المحيط، ودعوة لاشتغاله من داخل المجال الحضاري العربي الإسلامي الذي يتّسم بخصوصيات عدّة، أولها الإسلام مقوماً أساسياً للوجود العربي: "الإسلام الروحي بالنسبة للعرب المسلمين، والإسلام الحضاري بالنسبة للعرب جميعاً مسلمين وغير مسلمين".

ومن خلال هذا شكل الجابري طرحاً مفيداً خلال تناوله لمسألة العلمانية، فالديمقراطية والعقلانية بالنسبة له كانت حاجيات ضرورية لمجتمعنا بدل العلمانية، فقد كان المفكّر الجابري- رحمه الله- ينشدُ الديمقراطية فكراً وممارسةً، وكان همّه الوحيد أن يرى عالماً عربياً تسود فيه الحرية والكرامة والديمقراطية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد القادر زوهري
باحث في الفكر الإسلامي
باحث في الفكر الإسلامي
تحميل المزيد