تعود الجذور الأولى لنشأة التأويل إلى الفرق الكلامية، حيث ناصر المعتزلة التأويل إلى درجة أنهم اعتبروه "فريضة عين، فالإنسان كائن مؤولاً بالتعريف لأن النص الديني كائن قابل للتأويل". والتأويل هو الذي مهد للفلسفة في الحضارة الإسلامية، ويمكن القول إن علم الكلام هو علم التأويل؛ لأن الفرق الكلامية فرق مؤولة لا فرق بينهم إلا في الدرجة.
لقد شكل النص الديني "القرآن الكريم" الأساس الذي اعتمد عليه علماء الكلام والفلاسفة لبناء نظرياتهم في التأويل. وفي هذا السياق حاول ابن رشد الدفاع عن مشروعية التأويل من داخل النص الديني، وذلك من أجل خلق وفاق بين الشريعة والحكمة، وبين ظاهر النص الديني وباطنه، وتساءل ابن رشد في كتابه فصل المقال هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور أم مأمور به، إما على جهة الندب وإما على جهة الوجوب؟
يقول: "إذا كانت الفلسفة عبارة عن النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، وأن الموجودات تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، فإن هذا يؤدي إلى القول بأن الشرع قد دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها"، وهذا يتضح من خلال آيات كثيرة منها قوله تعالى: "أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء". وقوله أيضاً: "فاعتبروا يا أولي الأبصار" فالآية الأولى تحث على النظر في جميع الموجودات، والثانية تنص على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي معاً.
هكذا إذاً يكون الدين قد دعا وحث على ممارسة الفلسفة، سواء القرآن أو السنة، وإذا اعترض معترض قائلاً "إن هذا النوع من النظر في القياس العقلي بدعة إذ لم يكن في الصدر الأول للإسلام، فنقول إن النظر أيضاً في القياس الفقهي وأنواعه قد استنبط بعد الصدر الأول، وليس يرى أنه بدعة، فكذلك يجب أن يكون اعتقادنا في النظر في القياس العقلي"، وهذا ما معناه أن القياس الفقهي ارتبط ظهوره بظهور مشاكل فقهية جديدة التي لم تكن في رحاب الرسول والصحابة.
وما دام أن القياس الفقهي مشروع فلمَ يُمنع استعمال القياس العقلي الذي ظهر بدوره بعد الصدر الأول ما دام أن الهدف منه هو البحث عن الحقيقة، شأنه شأن القياس الفقهي؟ وإن اختلفا في المصداقية حسب ابن رشد.
حيث يعتبر ابن رشد أن القياس الفقهي ظني في حين أن القياس العقلي يقيني. بعد ذلك ينتقل ابن رشد للحديث عن الاستعانة بالغير في بحثنا عن الحقيقة حتى وإن كان ذلك الغير غير مشارك لنا في الملة، يقول ابن رشد: "وإذا كان القياس العقلي يعد ضرورياً، فإنه يجب علينا الاستعانة على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، سواء كان ذلك الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملة"، هي إذاً دعوة صريحة من طرف ابن رشد واعتراف صريح منه بأن العلم عمل إنساني تتعاون فيه البشرية جمعاء بغض النظر عن معتقداتها الدينية، ويقول: "وليس الأمر في مجال المنطق والفلسفة فحسب، بل في مجال العلوم كلها".
بعد ذلك ينتقل ابن رشد إلى الحديث عن الشريعة وأنواع المعرفة وطرق المعرفة، ذلك ما يؤدي به إلى التأويل. وفيما يخص الشريعة يعتبر ابن رشد أن الشريعة تنقسم إلى ظاهر وباطن، أي لها معانٍ ظاهرة للعامة، وأخرى باطنة للخاصة، الشيء الذي يستوجب التأويل لكي يتوافق الظاهر مع الباطن، ويعود سبب انقسام الشريعة إلى اختلاف فطر الناس وعقولهم ومستوى إدراكهم، وهم بذلك ثلاث طوائف:
أ) الخطابيون: وهم الجمهور الغالب الذي يصدق بالأدلة الخطابية التي تعتمد التأثير العاطفي الوجداني في المخاطب.
ب) الجدليون: وهم علماء الكلام، وهم منزلة بين العامة والفلاسفة، يعتمدون على المقدمات المشهورة.
ج) البرهانيون: وهم الفلاسفة ويعتمدون البرهان.
إن هذا الاختلاف في مدارك الناس والذي جعل الناس ثلاث فئات سينعكس على مستوى فهمهم النصوص الدينية، فالجمهور لا يرقى إلى مستوى البرهان بل يكتفي بظواهر النصوص الدينية وما ضرب لهم من أمثال، وللبرهانيين أو الفلاسفة الحق في تأويل النصوص الدينية للوصول إلى المعاني الخفية التي ضربت بالأمثال للعامة.
إن انقسام الشريعة إلى ظاهر وباطن لا يعني أن ابن رشد يدافع عن حقيقتين، بل العكس فالحقيقة واحدة، لكن إدراك العلماء لهذه الحقيقة يختلف عن إدراك العامة لها نظراً لاختلاف مستوى الفهم لدى الناس.
يعرف ابن رشد التأويل باعتباره "إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه وبسببه، أو لاحقه أو مقارنة أو غير ذلك من الأشياء التي عدت في تعريف أصناف الكلام المجاز". بعد تحديد دلالة التأويل ينتقل ابن رشد إلى وضع قانون وقواعد للتأويل وما يجوز ولا يجوز تأويله، حتى لا يكون التأويل عرضة للتحريف، فيؤول من يشاء ما يريد من النصوص ويذيع ما يريد من التأويل لمن يريد، لأجل ذلك إذاً وضع ابن رشد قواعد للمنهج يسترشد بها كل من يريد التأويل، وتحفظ في الوقت نفسه الإخاء بين الحكمة والشريعة.
ويفصل ابن رشد بين ما يجوز تأويله وما لا يجوز، بالنسبة لما يمنع تأويله، المبادئ الأساسية للدين الإسلامي ويتعلق الأمر بوجود الله وبعث الرسل واليوم الآخر، إضافة إلى كل ما تم عليه الإجماع شريطة أن يكون هذا الإجماع يقينياً، ثم إذا كان هناك تطابق بين ما في ظاهر النص الديني والعقل.
أما فيما يخص الآيات القابلة للتأويل فهي أولاً تلك التي يتعارض ظاهرها مع ما توصل إليه العقل والبرهان، ثانياً أن يكون المعنى الظاهر مثالاً، لكن لا يعرف لماذا هو مثال، وهذا الصنف يؤول وتأويله خاص بالعلماء ويمنع عليهم التصريح بتأويلهم للجمهور، ثالثاً أن يكون المعنى الظاهر مثالاً ورمزاً لشيء آخر ويكون من اليسير معرفة لماذا هو مثال، هذا الصنف لا يأخذ على ظاهره بل لا بد من أن يؤول والتصريح به للجميع.
إن التأويل كما حدده ابن رشد يجب أن يراعي القواعد التالية:
1) احترام خصائص الأسلوب العربي في التعبير.
2) احترام الوحدة الداخلية للقول في الدين.
3) مراعاة المستوى المعرفي لمن وُجِّه لهم التأويل. أي مخاطبة الناس حسب عقولهم.
وفي الأخير يجب أن نشير إلى أن التأويل بمعناه الرشدي، لا يهدف إلى اكتشاف حقائق جديدة، وإنما يهدف إلى أن يجعل القول الديني على وفاق مع ما يقرره البرهان العقلي.
المراجع المعتمدة:
– ابن رشد: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال. اعتنى به عدنان بن عبد الله زهار، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، المغرب.
– آيات من القرآن الكريم.
– محمد المصباحي: أحكام التأويل وأخلاقياته عند ابن رشد
– محمد عابد الجابري: نحن والتراث، المركز الثقافي العربي للنشر، الطبعة الأولى 1980.
– ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة.
– ابن رشد: تلخيص الخطابة لأرسطو.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.