قادرة على خلق نخبة تؤمن بالحقيقة.. لماذا تزايد الاهتمام العربي بالصحافة الاستقصائية مؤخراً؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/04/28 الساعة 10:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/04/28 الساعة 13:00 بتوقيت غرينتش
الأخبار الزائفة، استخدمها دونالد ترامب للترويج لنفسه و تكذيب معارضيه و تستخدمها الحكومات لتقويض الصحافة

تركز الصحافة الاستقصائية على جوانب مختلفة من الكشف عن الحقائق والمعلومات التي تسعى جهة معينة إلى إخفائها عن الرأي العام، كما تثير الانتباه إلى مواطن الخلل في نظام المجتمع أو الفشل في النظام العام، إضافةً إلى الرقابة على المؤسسات العامة وأداء المسؤولين في دوائر السلطة، والشخصيات العامة من خلال المساءلة النقدية وتحديد المسؤولية عن السلوكيات الخطأ والتصرفات غير السليمة، ونشر المعلومات التي تحفز الرأي العام وتدفع السلطة للإصلاح والتغيير، وذلك خدمة للمصلحة العامة.

ويكون كل ذلك بأصالة البحث في القصة من خلال اتباع القواعد العلمية والمهنية في البحث والتحري والتحقق من المعلومات، واختبار الفرضيات والعمق في معالجة المعلومات والحقائق باعتماد مناهج مختلفة (تاريخية، اجتماعية، نفسية، ثقافية، لسانية)، والتي تعكس المبادرة الفردية والجهد الذاتي للمحرر في إنجاز مسارات العمل الاستقصائي.

هذا وتورد بعض الدراسات والأبحاث خصائص وسمات كثيرة لنموذج الصحافة الاستقصائية تخص مسارات (البحث والمصادر والنتائج)، كما نجد ذلك على سبيل المثال لا الحصر في دليل (شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية) و(الكتاب المرجعي في الصحافة الاستقصائية)، لكن يظل العمل الاستقصائي قائماً على مرتكزات أو متطلبات أساسية هي الحقائق والمعلومات الخفية، وأصالة البحث في القصة، والقواعد العلمية والمهنية للاستقصاء، والرقابة على المؤسسات العامة، وفي عمقها تبرز المعرفة الحفرية/العميقة في معالجة القصة، إذ تشكل هذه المحددات والمرتكزات خصوصية العمل الصحفي الاستقصائي التي تختلف عن الممارسة الصحفية التقليدية.

الصحافة الاستقصائية تتجاوز القصص الإخبارية في ذاتها، إذ تتفاعل الصحافة التقليدية مع الأحداث وصناع الأجندة الإخبارية، كما تعتمد بصورةٍ عامة وأحياناً كلياً على مواد ومعلومات وفَّرها آخرون (أجهزة حكومية ومؤسسات عامة وخاصة…)، ويستكمل البحث بشأنها بسرعة، وقد تقوم القصة على الحد الأدنى الضروري من المعلومات، ويمكن لتصريحات المصادر أن تحل محل التوثيق، كما تعتمد على جمع ردود فعل حيالها، في حين أن المعلومات التي يكشفها العمل الاستقصائي لا يمكن نشرها إلا إذا تم التأكد من ترابطها واكتمالها، بحيث يستمر البحث حتى يتم التثبت من القصة، وقد يستمر بعد نشرها، كما يتطلب التحقيق توثيقاً لدعم تصريحات المصادر أو إنكارها.

كما تهدف الصحافة التقليدية إلى خلق صورة موضوعية للعالم كما هو، ولا تأمل في الوصول إلى نتائج أبعد من مجرد إخبار الجمهور بالأحداث والوقائع، بينما يستخدم العمل الاستقصائي بطرق موضوعية مواد ومعلومات حقيقية تتحول إلى حقائق تستهدف كشف وضع معين أو تعريته وعرض اتجاه التغيير، هذا ويساعد التفريق بين الصحافة الاستقصائية والتقليدية في تحديد أهمية النموذج الاستقصائي لوسائل الإعلام، خاصة التلفزيونية، والتي أخذت تولي اهتماماً ملحوظاً لهذا النموذج، كما نلاحظ في الخرائط البرامجية للقنوات العالمية، وذلك في سياق الرؤية، والسعي للبحث عن الحقيقة وعرض مختلف الآراء وفتح أبواب النقاش أمام المشاهد.

وهنا تبرز مسوغات وأبعاد مختلفة تظهر أهمية الصحافة الاستقصائية لوسائل الإعلام، والتي ترتبط أساساً بخصوصية النموذج المعرفي الذي تؤسس له قواعد العمل الصحفي الاستقصائي، والذي يمكن تسميته المعرفة الحفرية للواقع، الناتجة عن البحث في وقائع الأحداث والتنقيب في النصوص والقصاصات الإخبارية والوثائق الرسمية والتاريخية، والوثائق المهملة، ما يجعل العمل الاستقصائي يلبي حق المواطن في المعرفة وإدراك خلفيات ما يجري عبر استجلاء الحقيقة، والكشف عن المستور أو المسكوت عنه، وهو ما لا توفره أو تتيحه التغطية الصحفية التقليدية، لاسيما في الإعلام الرسمي العربي الذي لا يزال إعلاماً خادماً للسلطة.

وهكذا يصبح النموذج الصحفي الاستقصائي وسماً أو علامة أو بصمة إعلامية تميز هذه الوسيلة الإعلامية وتمد في عمرها المهني، وتكسبها بصمتها وفاعليتها في المجتمع، بل وتقربها من المواطن وقضاياه، وذلك بإخضاعها السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، للتشريح والمراقبة، وكشف الفساد وتعرية الفاسدين، ما يحقق لها القوة والكسب المعنوي والصدقية العالية، كما أن الزخم الإعلامي والسياسي الذي يخلقه هذا النموذج من خلال الملفات التي يتناولها بالتحقيق والتحري يكسب الوسيلة الإعلامية سمعة مهنية تزيد من شعبيتها، وإقبال الجمهور عليها، وهو ما يضعها أيضاً في الواجهة الإعلامية والسياسية، فضلاً عن مدخلات الإعلانات التي تجنيها تلك الوسيلة سواءً وقت النشر أو بعده.

هذا ويبدو تعاظم اهتمام القنوات الإخبارية بالصحافة الاستقصائية مثيراً لانتباه كثير من الباحثين، إذ تزايدت المساحة الزمنية لهذا النموذج في القنوات الإخبارية مقابل تراجع حضوره في الصحافة المكتوبة، وذلك بسبب الأزمة التي تعيشها الصحافة الورقية في ظل تراجع قارئيها وتحول العادات الاتصالية للجمهور باتجاه الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى ارتفاع الكلفة المالية لإنجاز التحقيقات الصحفية والأعمال الاستقصائية، كما ساهمت عدة عوامل في اهتمام القنوات الإخبارية بالصحافة الاستقصائية، أهمها تطور التكنولوجيا، والتي سهلت تطور الصحافة الاستقصائية، خاصةً التصوير الرقمي ودقة معداته التي باتت تتيح التصوير حتى بالكاميرا الخفية، وسرعة تجميع المعلومات واللقاء بمصادرها، وهو الأمر الذي لم يكن متوفراً في بداية الستينيات من القرن الماضي.

كما أن شدة التنافس بين القنوات الإخبارية، جعل الصحافة الاستقصائية تسهم في تنويع المنتج الصحفي وتحريره من سلطة التشابه والتماثل نتيجة تداول الأخبار عينها من المصادر ذاتها أو المتشابهة، وهذا أدى بدوره إلى تنويع المادة الصحفية وإخراجها من قوالب التعبير السردية المهيمنة مثل الخبر والتقرير الإخباري، لاسيما أن الخبر العادي أصبح متوفراً عبر منصات كثيرة، ولا يشكل توافره عند قناة أو أخرى فوراق تذكر بينها، إذ بقليل من البحث يمكن تمييز الخبر الصادق من الكاذب، بل يمكن حتى إضافة المعلومات الجديدة للقصة الخبرية من قبل المتلقي نفسه من خلال التجوال عبر عدة مصادر خبرية، ولكن ما يصنع الفرق في الصحافة الاستقصائية هو كشف الفساد المستور أو جريمة حدثت في الخفاء بالأدلة الدامغة، خاصةً حين تكون جهات نافذة متورطة في مثل هذه القضايا.

هذا وشكَّل التنافس بين القنوات التليفزيونية عاملاً أساسياً في اهتمام وسائل الإعلام بالعمل الاستقصائي بوصفه الممارسة الصحفية التي تميز بين المؤسسة الإعلامية الناقلة للأخبار (القناة العادية)، والمؤسسة التي تبحث في أسباب الأحداث وتداعياتها، إذ إن أبرز المؤسسات الإعلامية في العالم اليوم تعمل على إنجاز تحقيقات استقصائية للفضائح والتجاوزات التي تسبب فيها الساسة ورجال المال والأعمال بحرفية وعمق كافيين، ما يحقق لها الشهرة والموثوقية العالمية.

كما أن هناك تنافساً أيضاً بين القنوات الإخبارية والإعلام الجديد الذي يسعى إلى تقديم إعلام بديل يقف فوق أرضية الأخبار، فالصحافة الاستقصائية في هذه الحالة هي الحجة الدامغة لدحض الفكرة التي ترى أن الاستغناء عن القنوات الإخبارية ليس ممكناً، وأن المواطن الذي يملك كاميرا في هاتفه لا يمكن أن يكون صحفياً محققاً، أي ينجز تحقيقات صحفية بكل ما تقتضيه متطلباتها المهنية وأخلاقياتها، فأمام كثرة المعلومات وتدفقها، والتي تتطلب من المواطن/المشاهد متابعتها، تضاءلت قدرته على فهمها في ظل ضغط الوقت والسرعة، غير أن الصحافة الاستقصائية تسعى إلى تلبية هذه المهمة.

هذا وأسهمت وسائل الإعلام المتنوعة في تجريد الصحافة الاستقصائية من طابعها النخبوي ونزعتها الثقافية والفكرية الموجهة إلى الصفوة التي تملك خلفية معرفية في السياسة والاقتصاد والمال والعلم، وبذلك تقدم الحقائق بشكل بسيط وسهل ومكثف، وبتقنيات مرئية تغري بالمتابعة، ما كان له أثرٌ قوي في تحديد وتوجيه سلوكات الأفراد باتجاه المشاركة والتفاعل مع هذه الأحداث وتطوراتها بدل أن يكون الجمهور سلبي، وهو ما يشكِّل تطوراً في الحس النقدي للجمهور، إذ أصبح المشاهد اليوم صحفياً مشاركاً في رصد وتقييم ما يحيط به من أحداث ومستجدات، ما يجعل القنوات الإخبارية تحرص على مواكبة الوعي والثقافة العالية للمشاهد عبر العمل الاستقصائي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حسني الخطيب
كاتب أردني متخصص في العلاقات الدولية
تحميل المزيد