"الطوربيد البشري السوري يفوز من جديد في بطولة العالم للسباحة ويحقق رقماً قياسياً خيالياً".. هكذا كان تعليق المذيع على راديو لندن وهو يشاهد السباح السوري يصل إلى خط النهاية في بطولة العالم كابري نابولي 1961، وهي الذهبية العالمية الثالثة للبطل الشاب، وقد نالها في العشرين من عمره.
في الحلقة الثانية من سلسلة "صفحات مشرقة" نسلط الضوء اليوم معاً على "تمساح النيل"، "الطوربيد البشري"، السباح البطل السوري العالمي، الراحل محمد زيتون.
وُلد أسطورة السباحة السورية محمد زيتون عام 1941 وركب البحر قبل أن يركب الآليات، واجتاز المسافة بين أرواد وطرطوس تحت الأمطار وفي ظل الأعاصير، اجتازها سباحة وهو طفل في العاشرة من عمره وسط ذهول كل من شاهده، مُبشِّراً منذ تلك اللحظة بولادة سباح سوري من الطراز الرفيع.
كثير منا -نحن السوريين- وبكل أسى وألم يعتصر القلب، لا يعرف محمد زيتون "السوري" ولم يسمع عنه، في وقت تُغزى الشاشات بكثير من السخافات، حتى صارت التفاهة منهجاً ودستوراً على حساب البرامج الهادفة.
أكثر من نصف قرن مضى على رحيل السباح السوري العالمي محمد زيتون فخسرته سوريا كما خسرته الرياضة في 21 سبتمبر 1964 إثر حادث تعرض له أثناء ذهابه لخوض غمار سباق النيل، ودفن في مسقط رأسه، مدينة جبلة، على الساحل السوري.
يقال إن زيتون، وهو بطل العالم أربع مرات (هواة ومحترفين)، كان يسبح يومياً -صيفاً وشتاءً- دون انقطاع.
وقد شوهد عشرات المرات وهو يتمرن على السباحة عبر ربط الفلوكة (قارب صغير) بخصره وسحبها سباحة إلى الشاطئ، لكن هذه التمارين كانت غير منظمة ولم يكن يشارك في سباقات رسمية، كان يشارك بالسباقات الشعبية فقط ويتفوق على الجميع.
قرار "زيتون" المشاركة في السباقات جاء بعد مرافقته من على ظهر القارب للسباح "منير ديب العلي" في سباق الجمهورية العربية المتحدة، حيث إن حبه للسباحة دفعه للقفز في الماء والسباحة إلى جانبه وشد أزره وسط إعجاب شديد من خبراء السباحة آنذاك بسرعته وأسلوبه في السباحة، ومن هنا كانت البداية.
كل هذا كان يوحي بأن هذا الشاب السوري الذي يعمل في البناء والحدادة، سيكون له مستقبل زاهر على صعيد السباحة، وهو الذي لم يخيب الآمال منذ مشاركته العالمية الأولى في بطولة العالم "كابري نابولي" عام 1959 حين نال الميدالية الذهبية على مستوى الهواة.
وعاد أصغر سباح في بطولة العالم عام 1960 من جديد ليتوج باللقب على مستويي الهواة والمحترفين ويجبر الجميع على الوقوف والتصفيق لهذه الموهبة السورية المبدعة.
بطل لم يخسر أبداً!
تقول الأرقام والإحصائيات في أرشيف الطوربيد البشري إنه لم يخسر سباقاً قط، وقد كان لافتاً مفاجأته للجميع عام 1964 عندما عاد للمشاركة في بطولة العالم بعد انقطاعه عنها لعامين، وكيف تمكن من سحق الجميع ونيل الميدالية الذهبية بجدارة مطلقة.
من المواقف الغريبة التي مرَّت في حياة هذا السباح السوري الأسطوري، أنه وخلال أحد السباقات كُسرت يده فأكمل بيد واحدة لمسافة 10 كم وحل في المركز الثالث، لكن لجنة التحكيم -تقديراً لما قام به- منحته المركز الأول مكرر.
آخر سباق شارك فيه "زيتون" كان سباق النيل الدولي، وقد حصد نتيجة الفوز به مبلغاً من المال اشترى به السيارة التي لطالما حلم بها والتي كانت في النهاية سبباً لموته عندما تعرض لحادث مروري فيها أدى لوفاته على الفور في مصر يوم 21/9/ 1964 عن ثلاثة وعشرين عاماً حقق خلالها هذا الأسطورة ما قد يعجز الكثيرون عنه.
وقد ذكر الفنان ياسر العظمة في سلسلة "مع ياسر العظمة"، على يوتيوب، أن محمد زيتون كان من ضمن أساتذته، وعلمه السباحة أثناء إقامة "العظمة" مع والده في جبلة على الساحل السوري.
ذلك هو السباح الذي نعجز أن نوفيه حقه بمثل هذه الكلمات، لقد كان بحق ابن البحر وحوته الذي لطالما ابتلع الخصوم وتتوج بالذهب.
عِبرة وعَبرة
إننا حين نقلب صفحاتٍ مِن أخبار مَن سبقونا نجدها مَلْأَى بصور لامعة وصفحات مشرقة لفنانين أو رياضيين وأدباء وعلماء ومدرسين، أُغفل ذكرُهم ونُسيت أسماؤهم وأُهمل فضلُهم.
وسواء أكان ذلك عن قصد ممن تولى إدارة المناهج لطلبة المدارس والجامعات أو عن سوء تقدير أو عن جهل، فإن كل هذا في ميزان العلم والحضارة تدمير وتخريب للأمم والشعوب.
وبين أوراق الماضي وسجل التاريخ قد يقضي القارئ ردحاً من الزمان يُقَلِّبُ الصفحات ويتنقَّل بين الكتب، إذ إن قراءة التاريخ ودراسته ركن متين من أركان فهم الحاضر والتخطيط للمستقبل.
التاريخ هو حياة الأشخاص والأمم، ومعبِّد الطريق أمام الإنسان وجماعته، عند السير نحو المستقبل. وقد قيل قديماً "إن من يدرس التاريخ يضيف أعماراً إلى عمره"، ففيه خبر الماضين الأولين ومنه تُستخلَص العبر.
ومن المعروف أن كل أمة تسعى جاهدة لإبراز مآثر أعلامها وعلمائها ومفكريها ليبرز فضلها بين الأمم ويسمو شأنها بين الشعوب، لتضيء به دروب السائرين من أبنائها؛ فيكونون خير خلف لخير سلف.
وكذلك نحاول من خلال هذه الحلْقات أن ننفض الغبار عن بعض الأخبار عسى أن ننجح في إنصاف من رحلوا بأجسادهم وبقوا في وجدان البشرية ومجد التاريخ بإنجازاتهم وأفضالهم وعلومهم.
إلى لقاء يتجدد، إن قدّر الله البقاء، مع حلْقة جديدة من هذه السلسلة..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.