ليس هذا الذي أراده الشيخ زايد لبلاده أبداً، ما أراد الشيخ زايد لبلاده أن تشارك إسرائيل الاحتفال بـ"يوم استقلالها"، لكن محمد بن زايد سيفعلها مُدنِّساً بذلك سمعة والده، ومستخفاً بشهامة أهل الخليج العربي.
عندما تأسسَت دولة الإمارات العربية كان دستورها ينص على تداول الحكم بين الإمارات السبع، بحيث يتولى حاكم كل إمارة رئاسة البلاد لمدة خمس سنوات، حينها كان الشيخ زايد يدرك أن إمارة أبوظبي هي أكبر الإمارات مساحة وأغناها ثروة، ورغم ذلك اقترح هذه المادة الميثاقية لأنه أراد بناء بلد التسامح، لكن بعد رحيله وفي سنة 2009 تم الانقضاض على هذه المادة الدستورية من قبَل ورثته، خصوصاً بعد وقوع دبي فريسة للأزمة المالية العالمية، وحاجة الإمارات الأخرى للدعم المالي من أبوظبي، وبذلك تحولت الإمارات العربية من دولة تمثل روح العصر إلى مشيخة العين، التي يحكمها من يجهل التاريخ حتى القريب منه، والدليل: مَن احتل إسرائيل حتى تنال استقلالها؟ أي طفل عربي يعرف أن إسرائيل كيان مصطنع، اغتصبت بلاداً لا صلة لها بها، وشرَّدت وأخرجت شعباً آمناً مِن دياره، لكن هذه الحقيقة البسيطة يجهلها حتماً حاكم مشيخة العين، والمسألة هنا ليست تبلداً في الإحساس، بل هي انعدام الحس الإنساني بالمطلق عند من يعشق السلطة ويمارس التسلط.
لماذا لا يصدق بعض العرب أن إسرائيل لا تشكل ضمانة لأحد، ولا يمكن الركون إليها كحليف موثوق، وأن برنامج بيغاسوس الذي يسمح لهؤلاء الحكام بالتجسس على مواطنيهم ليس سبباً كافياً أو معقولاً للانبطاح أمام "إسرائيل" إلى هذا الحد، والأمان لا يأتي من قمع الحريات وكتم الأفواه، بل يكمن في اعتماد الديمقراطية أساساً لتداول السلطة، ولا يمكن أن تكون الدولة حديثة إذا كان نظام الحكم فيها وراثياً مهما اشترت من مظاهر الحضارة.
وإن جلوس سفراء دول التطبيع على مائدة الإفطار عند رئيس إسرائيل في الوقت الذي يستبيح فيه المستوطنون وشرطة إسرائيل حرمة المسجد الأقصى أمر معيب. وما نشهده من تمادي بعض الحكام العرب في دفن رؤوسهم في الرمال كالنعامة، في الوقت الذي نشهد فيه مخاض ولادة نظام إقليمي جديد هو مدعاة للعجب.
فبدلاً من الاستماتة في الاصطفاف خلف الغير، كان الأحرى لهم إعادة ترميم النظام العربي بحده الأدنى، ولا يكون ذلك إلا بإعادة الاعتبار لمركزية القضية الفلسطينية، وأقله العمل على تعويم مبادرة السلام العربية، التي أقرت في قمة بيروت، لا اللهث خلف التطبيع المجاني مع العدو الإسرائيلي؛ لأن استمرار هذا النهج سيرتد على هؤلاء الحكام سلباً، خصوصاً أن الشعب الفلسطيني لن يستكين قبل الحصول على كامل حقوقه، حتى ولو كانت دورة التاريخ الحالية ليست ملائمة.
ومما لا شك فيه أن طيّاري شركة الاتحاد للطيران، وشركة طيران أبوظبي، لدى عبورهم سماء فلسطين فوق الأراضي والشواطئ المحتلة، في 15 مايو/أيار القادم سوف يشعرون بالذل لأنهم يحتفلون باستقلال "إسرائيل"، وإن كان ذلك رغماً عنهم.
لأن -في رأيي- أي مواطن في دولة الإمارات لم يبلغ هذا الدرك من الاستهانة بالتاريخ، تاريخ الشيخ زايد العربي الأصيل قبل تاريخ أي أحد آخر، هذا الدرك الذي بلغه محمد بن زايد، الذي يمارس خلال تفرده بالسلطة أنواعاً مختلفة من الجمباز السياسي، فتارة يريد جعل الإمارات مشيخة إمبريالية، بالتدخل في كافة الدول البعيدة والمجاورة، ويحاول السيطرة على موانئ البحر الأحمر كلها. وتارة أخرى ينتهج سياسة تصفير المشاكل فيطرق أبواب إيران وتركيا وإسرائيل في الوقت نفسه، رغم ما يفرّق بين تلك الدول من مصالح.
ويبدو أن همّه الأول هو الانتقام من العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، دون أن يبوح بالأسباب التي تدفعه إلى هذا السلوك غير المتزن، والذي في نهاية المطاف سوف يعمّق الشرخ بين الإمارات وداخلها، وبين الإمارات وغيرها، نتيجة تفرده في رسم سياسة الدولة، ما يُهدد الاستقرار الداخلي، ويضع مستقبل الإمارات "على كف عفريت".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.