من الدراما النظيفة إلى "حب ملوك"
يقول شكسبير: "أعطني مسرحاً أعطك شعباً عظيماً".
كان للفنون، على امتداد التاريخ، دور مهم في تهذيب الفرد وتأطير الشعوب والنهوض بالدول؛ حيث تعد وسيلة لحفظ الموروث الجماعي والهوية الثقافية، وعادة ما تتطرق الأعمال الفنية إلى الظواهر السائدة إيجابية كانت أم سلبية، من زاوية إبداعية بغاية التقويم والعلاج أو بغاية العرض والمناقشة.
وتعد تونس من أعرق الدول العربية والإفريقية في مجال فنون السينما والدراما والمسرح؛ حيث تزخر المكتبة الثقافية البصرية بأعمال رائدة ما زالت محفورة في ذاكرة التونسيين ووجدانهم.
وقد دأبت القنوات التلفزيونية التونسية منذ تأسيسها إبّان الاستقلال، على إنتاج مسلسلات موسمية بمناسبة شهر رمضان، تشد المشاهد وتجمع العائلات التونسية حولها.
في السنوات الأخيرة، هجرت أغلب العائلات هذه العادة، وصار النقاش حول ما تحتويه المسلسلات الرمضانية من مشاهد تتعارض مع قيم المجتمع وقدسية الشهر المعظم جدلاً دورياً من قِبَل النقاد المختصين وكذلك عموم المشاهدين.
وتختلف وجهات النظر في تقييم هذه المشاهد بين من يعتبرها ضرورة إبداعية واجتهادات فنية وبين من يصنفها في مجال الإثارة المخالفة لسياق الشهر الكريم ونفحاته وقيم المجتمع وثوابته، ويصل البعض إلى اعتبارها من الرداءة والبذاءة وقلة الذوق.
من المسلسلات العائلية إلى مسلسلات الإثارة
ظهر في تونس، منذ أواسط الألفية الثانية إنتاجات تلفزيونية مختلفة عن السائد يدّعي أصحابها معالجة تابوهات اجتماعية وقضايا مسكوت عليها في البلاد، مثل الفساد والرشوة وانتشار المخدرات بالإضافة إلى العنف والهجرة السرية وكذلك التطرق إلى مواضيع حساسة على غرار الجنس والخيانة الزوجية والعلاقات خارج إطار الزواج.
وتحولت جل المسلسلات الرمضانية إلى مادة تجارية يسعى من خلالها المنتج إلى تحصيل متابعين أكثر، وبالتالي عائدات أكبر من الإشهار دون مراعاة خصوصية شهر رمضان وهوية الجمهور المستهدف.
وباتت المسلسلات الرمضانية بقصد من المخرج أو دون قصد وسيلة تسويق للفساد والتطبيع مع مشاهد الجريمة والرذيلة، حتى صار الشباب يُنعت بجيل "أولاد مفيدة" نسبة لأحد هذه المسلسلات بسبب تشبهه بشخصياته في الوشم واللباس وقصة الشعر وحتى نبرة الصوت، بل بلغ الأمر إلى ارتكاب جريمة قتل تأثراً بها.
ما يجلب القلق من مستوى الأعمال التلفزيونية الرمضانية أيضاً، هو المبالغة في تقديم الظواهر الاجتماعية السلبية خاصة تلك المتعلقة بالمرأة، فالمرأة في هذه المسلسلات لا تشبه المرأة التونسية، بل يتم تقديمها في شكل مبتذل لا يخرج عن دائرة الخائنة والماجنة والمتمردة على عائلتها وعاداتها وتقاليدها.
ويذهب البعض في رد هذا التشويه لصورة المرأة إلى غايات تجارية، حولها فيها المنتِج إلى سلعة لتسويق عمله، ويرى البعض الآخر أن اختصار المرأة في تلك الصورة الشاذة دون تقديم صورتها الأقرب للواقع التي قد تكون مرأةً محافظة ومثقفة مناضلة، يرجع إلى قصور متعلق بالمنتج الذي عجز عن تصوير حقيقة المجتمع وانحساره في دائرة ما يراه في محيطه الضيق.
وبقطع النظر عن مستوى الجرأة في الأعمال التلفزية والدراما التونسية، فإن المجتمع التونسي طالما عبَّر عن رفض ما يحصل من "انحراف" متجدد في مستوى مضامين الأعمال الرمضانية.
المشاهد التونسي يلجأ للأعمال القديمة
في مستوى نسب المشاهدة خلال شهر رمضان يمكن أن نلاحظ ما تحظى به القناة الوطنية التونسية الثانية التي تبث مسلسلات قديمة يعود تاريخ إنتاجها إلى أواسط التسعينات، من متابعة عالية، بل إن سلسلة "شوفلي حل" التي بُثت أول مرة منذ أكثر من خمس عشرة سنة تتصدر نسب المشاهدة واهتمام المشاهدين، وأصبحت تعاد حلقاتها دورياً على مدار السنة بسبب تزايد الطلب عليها.
إن حنين المشاهد التونسي إلى الأعمال القديمة يعود إلى احترامها خصوصية العائلة وهوية المجتمع حتى في معالجتها لقضايا مثيرة، وكان يحرص كتاب سيناريوهات هذه المسلسلات على أن يجد المتابع نفسه في شخصيات العمل الدرامي، وأن تجد العائلة عائلات تشبهها في الشكل والخطاب والاهتمامات.
وتعد هجرة المشاهد التونسي إلى الأعمال القديمة تأكيداً أنها أكثر احتراماً لهوية الشعب وذوقه المشترك، وكذلك موقفه من الأعمال الجديدة ومضامينها، التي باتت تهدد تنشئة الأجيال والقيم المشتركة للمجتمع.
ورغم توجه العائلات إلى الأعمال القديمة، استطاعت الأعمال الجديدة اقتحام البيوت واختراق عقول فئات من المجتمع، وخاصة الشباب منهم، وذلك عبر التلفزيون أو مواقع التواصل الاجتماعي.
ويعود ذلك أساساً إلى قدرة منتجيها الفائقة في الوصول إلى هذه الفئة ومواكبة التقنيات الحديثة، بالإضافة إلى ما تتوفر لديهم من إمكانيات مادية وقوة المؤثرات الفنية التي تعتمدها وحجم الإغراء الذي تحتويه أعمالهم.
فيركز منتجو المسلسلات الرمضانية المثيرة على الشباب كفئة رئيسية للاستهداف عبر طرح قضايا حساسة تلامس واقعهم، لكن بطرحٍ غير أخلاقي، واعتماد معجم لغوي دارج للغاية، مستعمل من قبلهم في حياتهم اليومية.
وبالإضافة إلى التركيز على فئة الشباب يسعى بعض منتجي الدراما التونسية إلى تجاوز هذه العقبات من خلال بحث أسواق جديدة ومزيد الانفتاح على الجماهير العربية، وخاصة المغاربية عبر إنتاج أعمال مشتركة، إلا أن أعمالهم تواجه إشكاليات في التسويق بسبب الجرأة المبالغ فيها في تناول بعض القضايا.
المجتمع الجزائري يرفض جرأة الدراما التونسية
مع بداية شهر رمضان الحالي، قرّرت سلطة ضبط السمعي البصري الجزائرية "إيقاف بث حلقات مسلسل من إنتاج مشترك تونسي جزائري عنوانه "حب ملوك" لمدة أسبوع مع طلب تقديم اعتذار من طرف قناة النهار الجزائرية الباثة لهذا المسلسل للرأي العام، وجاء ذلك إثر حملة استياء ورفض واسعة من قِبل المجتمع الجزائري بمختلف فئاته لمشهد فيه نظرة وإيحاءات "لا أخلاقية" في الحلقة الثالثة من المسلسل.
وأرجعت مؤسسة الرقابة الجزائرية هذه العقوبة إلى ما عاينته من مشاهد اعتبرت أنّها "تتنافى مع قدسية الشهر الفضيل وتمسّ بالقيم الأخلاقية للمجتمع الجزائري"، حسب ما جاء في بيان لها.
ورغم ما يجمع المجتمع التونسي بجاره الجزائري من مشتركات ثقافية وأخلاقية ودينية، فإن مشاهد المسلسل الذي يبث بدوره في قناة تونسية لم تثر أي إشكال من السلطات المختصة في تونس، بل صرح مدير عام القناة التونسية أن المشهد لا يتضمن ما يخدش حياء الجمهور التونسي، فيما ذهب بعض الممثلين التونسيين إلى الاعتذار من المجتمع الجزائري بسبب المشاهد دون الاعتذار للمجتمع التونسي. وأحد الممثلين الجزائريين بدوره صرح بأن الدراما التونسية أكثر جرأة من الدراما الجزائرية والمغربية.
الدراما في تونس بين الحداثة وقيم المجتمع
تصر بعض النخب الثقافية التونسية على التمترس خلف أصنام صنعتها بيديها، ترى فيها سبيل تحديث المجتمع وتنويره والانتقال به إلى مراتب الشعوب المتقدمة.
والتقدمية في نظر نخبنا تنطلق بالقطع مع كل ما يربط الشعب بهويته العربية الإسلامية مقابل الانفتاح على عادات الغرب وممارساته حتى في حال تعارضها مع أخلاق المجتمع وقيمه.
وتعتبر "الطلائع المستنيرة" من النخب الثقافية رفضَ التونسيين الأعمال الصادمة لعاداتهم وقيمهم من مخلفات الرجعية وسلوكاً معيقاً لتقدم المجتمع وهو ما جعل بعض الفنانين والإعلاميين التونسيين يشنون حملة على السلطات الجزائرية التي أوقفت بث مسلسل "حب الملوك" متهمة إياها بالتضييق على الإبداع وحرية التعبير كما وجهت سهام نقدها إلى المعتذرين من الشعب الجزائري معتبرة في ذلك "ردة" على دور الممثل ومهمته الإنسانية!
أخيراً إن النظرة "الحداثية" من قِبَل جزء من النخب التونسية لبعض قضايا المجتمع وطرحهم الفني "التقدمي" لها بصور صادمة ساهم سابقاً في هجر المشاهد لأعمال السينما التونسية وتسبب في غلق عدد من دور السينما حتى أوشكت بعض مؤسسات الإنتاج السينمائي على الإفلاس قبل أن تحظى بدعم مالي من قبل منظمات أوروبية وفرنكفونية بالإضافة إلى دعم الدولة.
فهل تستمر هذه الشركات الإنتاجية في سياق أعمالها غير الأخلاقية لمجرد توافر الدعم حتى لو لم تكن تعبر عن المشاهد التونسي، أم تحترم قيمه وتقاليده وترحمه من "التقدمية" التي تدعيها؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.