السؤال الأخير لأحمد مناصرة!

عدد القراءات
549
عربي بوست
تم النشر: 2022/04/15 الساعة 10:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/04/15 الساعة 10:57 بتوقيت غرينتش
صورة للأسير أحمد مناصرة في المحكمة - الأناضول

"الانتحار حرام؟" لا يوجد عمر محدد لطرح هذا السؤال قد يسأله طفل يبلغ من العمر ثماني سنوات، تعرف على فعل الانتحار للتو في فيلم، أو مراهق تخلت عنه حبيبته ويشعر بالعجز أمام كم الوجع الذي يجرّبه للمرة الأولى أما عن الدوافع، فهي تصنف كالتالي: إما سؤال نابع من حاجة طفل لتصنيف الأفعال ضمن فئتي الحلال والحرام، ما يسمح له به وما هو ممنوع عنه، أو للفت الانتباه؛ إنني هنا أتألم، أفكّر بالموت، رجاءً انظروا في عيني، مدّوني بالحب فهو وحده كفيل لإنقاذي، وقد يكون السؤال انعكاساً حقيقيّاً لأفكاره ونيته على القيام بالأمر؛ أي إنهاء حياته، وفي هذه الحالة ينصح عند سماع السؤال التوجه للطبيب النفسي ومراقبة السائل بشكل دائم خوفاً على حياته.

يسأل أحمد مناصرة، الفتى البالغ من العمر عشرين عاماً، الذي أمضى آخر سبع سنوات من حياته في سجون الاحتلال: "الانتحار حرام؟"، أكاد أتخيّل ردة فعل المحامي القابع أمامه قبل موعد المحكمة بقليل، يمكنني أن أرى تغير ملامحه عند سماع السؤال، وتراخي شفته السفلى وانفراج بؤبؤ عينيه القليل هناك، وأحمد جالس أمامه، وسمات تعب رجل يبلغ المئة عام مرسومة على وجهه، يبحث لثوانٍ قليلة عن الكلمات التي ستشد من أزر هذا الطفل الذي لم يملك الفرصة ليكبر بعد ويعرف أنه ليس لديه وقت لأن يفاجئه السؤال، ولا أن يلوم الشاب عليه.

"بحبوني؟"، كان هذا سؤال أحمد السّابق لوالدته حين حدّثته عن الحملة المقامة للمطالبة بالإفراج عنه. قد يخيّل لنا هنا أنّ الدافع وراء أسئلة هذا الشاب هي الثاني مما ذكرنا؛ أي بالتحديد لفت النظر والمطالبة بالحب، لكن الدافع الحقيقي هنا أقسى من كل ما قد يشير إليه علم النفس ودراساته، ولكي ندركه فعليّاً علينا أن نكون أحمد.

دعونا نحاول: غرفة لا تتجاوز المترين طولاً وعرضاً يكسوها ظلام لم أعهده قبل، ففي بيتنا كنت ألجأ إلى حضن والديّ في الليل فيحل الصبح سريعاً. روائح نتنة أفقدتني حاسة الشم وكائنات صغيرة تتحرك حولي مهما قتلتها تعود من جديد، أجلس في الزاوية خوفاً من ضربات السجان الدورية على باب الزنزانة الحديدي، يداي تلف قدمي، ورأسي مخبأ في فتحة الأمان الوحيدة بين صدري وركبتيّ.

سابقاً كان الأمان كثيراً وكريماً، كان يزورنا في الأمسيات ودفء سريري، وفي ساعات اللهو بعد المدرسة، كنت أشعر به مع عائلتي وابن عمي، أما بعد أن رحل الاثنان، ابن عمي، والأمان الكريم. أضحيت وحدي مع هذا الأمان قارس البرودة الذي أشعر أنه يثير في جسدي شوقاً لا يشبعه لكنني متمسك به، تعلمت أن أشتريه بقطع من الذكريات بدلاً من النقود فذاكرتي لم تعد تعمل كالسابق حين ضربني الجنود على رأسي، شعرت بدروسي المدرسية تتساقط مني عندما أسقطوني أرضاً.

كانت كل برامجي التلفزيونية المفضلة والقصص التي حملتها من كبار عائلتنا تتناثر حولي صوراً مرسومة باللون الأحمر، فقط كانت الوجوه تتصادم بعضها ببعض داخل عقلي، إحداها لأمي، شعرت أن عليّ أن أبتسم لها وأن أتحرّك من مكاني نحوها، لكن الذكريات وحدها مَن تحركت. شاهدتها تركّب أرجلاً بلاستيكية، وتركض بعيداً عني، وعن الجنود الذين يقتادونني إلى شاحنة قاتمة اللون، حتى وصلنا، ونهرني ذو الوجه القبيح أن أتكلّم قلت: "مش متذكر"، فقد ذهب كل شيء إلا القليل من طفولتي التي تركتها لأسترجعها فقط في لحظات كهذه في الغرفة المظلمة، والكائنات الصغيرة تصعد فوقي وتنزل، ورأسي ملقى في الحفرة.

ما يبحث عنه أحمد مناصرة هو الخلاص، فلو كان لهذا الطفل الفرصة ليعرف الموت الرحيم لسمعتموه يسأل: "هل الموت الرحيم حرام؟".

في كلّ إنسان غريزة حياة وغريزة موت، يتدافع الاثنان ويتكاملان لنشكّل الحياة التي نعيشها يومياً، بتفاعلاتها وإنجازاتها. في الأوضاع غير الصحية، تطغى طاقة الموت على الحياة فيصبح الإنسان في وضعية الضرر الذاتي الآلي، أما في حالة الأسرى، فهناك قوة خارجية تدفعهم نحو هذا الضرر الذاتي والتخلص الآلي من مظاهر الحياة الداخلية فتتآكل رغبتهم بالنجاة، ويصبح الموت خلاصاً.

وهنا، يجب أن نشير إلى أن حالة أحمد مناصرة والأسرى القاصرين والأسيرات القاصرات تختلف عن بقية الأسرى الذين واللواتي أتيح لهم أن يبلوروا شخصياتهم خارج المعتقل أولاً، ويشحنوها بعناصر دفاعية مهمة كالعقيدة والأمل والتحدي، التي تساهم بشكلٍ ما مع عوامل أخرى بالحفاظ على أرواحهم وأرواحهن.

أما أحمد مناصرة، فمع احتمالات وجود اضطرابات نفسية كبيرة سببها له الاعتقال والتعذيب والعزل الانفرادي لم يحظَ بالفرصة لشحن ما يساعده على نجاة روحه، كما يمكننا أن نرى بوضوح من نظرات عينيه الشاحبة، وبعدم معرفتنا التامة نوع الأدوية التي يتناولها التي من المؤكد أنها تلعب في كل أنظمته الحيوية إلى جانب النفسية، علماً منا أن هذا الاحتلال القادر على قتل وتعذيب طفل، لن يقدم له العلاج الصحيح الذي يحتاجه، فيمكننا أن نقول إن أحمد متروك بالكامل لوسوسات قد يسببها عقله المتعب، الذي له مخزون ذكريات قد ينفد بأي لحظة، ولحظات قليلة مع والدته يحظى بها كل بضع سنوات مرة واحدة دون أي دوافع أخرى ترجح كفة غريزة الحياة على الموت.

لكن الضوء آخر النفق يقول: إن هذا الشاب الذي لم يكمل طفولته، ما زال يحمل منها الكثير، فهو لا يزال يسأل، لا يزال يستكشف الخارج، ولا يزال يفتش عن الأمل كطفل صغير يحلم بكابوس لا بدّ أن ينتهي، فما يتحتم علينا الآن هو أن نساعد هذا الطفل ليخلق نوافذ ذكريات جديدة لنغلق الصدع في رأسه ونرجح كفة الحياة حتى نسمعه يسأل أسئلة متوقعة لمن في مثل عمره: "فيني أنزل مع صحابي؟"، "شو رح تجبولي بس أنجح؟".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ميرا كريّم
كاتبة وباحثة فلسطينية، مهتمة بقضايا الأسرى واللاجئين الفلسطينيين
كاتبة وباحثة فلسطينية، مهتمة بقضايا الأسرى واللاجئين الفلسطينيين
تحميل المزيد