بعد نتائج المفاوضات الإيجابية التي نتجت على لقاء إسطنبول بين الوفدين الروسي والأوكراني خرجت تصريحات جديدة من القادة الروس والأوكرانيين؛ حيث صرّح الرئيس الروسي بأن المفاوضات الروسية- الأوكرانية وصلت إلى طريق مسدود، بينما وصفها مستشار الرئاسة الأوكرانية، ميخايلو وبدولياك، في رسالة إلى الصحافة بأن "المفاوضات صعبة جداً".
تأتي هذه التصريحات بعد أن اتهم الرئيس الروسي أوكرانيا بتغيير موقفها فقال: "هناك الآن مطالبات بشأن الأمن، وقضايا تسوية العلاقات المتعلقة بشبه جزيرة القرم وسيفاستوبول ودونباس تخرج من نطاق هذه الاتفاقيات".
أمن روسيا وطموحها الاقتصادي يلتقيان في أوكرانيا
يشكل إقليم دونباس، الذي نصيبه 20% من الناتج المحلي الأوكراني منطقة اقتصادية مهمة جداً بما يحتويه من ثروات طبيعية من فحم ومعادن تساعد روسيا اقتصادياً، وخاصة بعض المعادن المستخدمة في الصناعات العسكرية والنووية كما أنه يحتوي على احتياطي 60 مليون برميل من الفحم، هذا اقتصادياً، أما على الصعيد الأمني فتشكل السيطرة على المنطقة ضمانة أمنية لحماية الحدود الروسية وإبعاد الغرب عن الحدود المباشرة لروسيا، كما أنه إذا استطاعت روسيا السيطرة على منطقة ماريبول الأوكرانية تكون روسيا قد استطاعت أن تصل بين إقليم دونباس وشبه جزيرة القرم، وهكذا تتمكن من الوصول عبر اليابسة إلى القرم، كما أنها ستؤمِّن سفنها نحو المياه الدافئة.
وبعد أن صرح الرئيس الروسي لأكثر من مرة بأن العملية العسكرية تسير بشكل جيد، وقد حققت الأهداف المرجوة منها، وقد استطاعت روسيا تدمير البنية العسكرية التي تهدد الأمن الروسي، فهكذا تعتبر روسيا نفسها قد حققت الهدف من العملية العسكرية ضمن أهدافها المعلنة، وأهدافاً أخرى نستطيع أن نراها من التطورات في أرض المعركة، كما أن استعادة الروبل الروسي عافيته رغم العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضها الغرب على روسيا سمح لاقتصاد موسكو إعادة التقاط أنفاسه من جديد والعودة إلى المفاوضات بشكل أقوى، بعد أن ساد الهدوء الأسابيع الماضية في الحرب الكلامية بين البلدين.
بين الأهداف الأمريكية والمخاوف الأوروبية
يمكن التنبؤ بأن الأهداف الأمريكية قد تكون مختلفة عن الأهداف الأوروبية، فأوروبا ترى الهجوم الروسي على أوكرانيا على أنه خطر مباشر يهدد أمنها القومي والاقتصادي والاجتماعي، فعلى الصعيد الاجتماعي إذا استمرت هذه الحرب لمدة زمنية طويلة قد يشكل النزوح الأوكراني أزمة إنسانية حقيقية لن تستطيع أوروبا تحملها لفترة طويلة بسبب الأزمة الاقتصادية التي نتجت عن هذه الحرب نفسها والأزمات التي شكلتها جائحة كورونا ولم تستطِع أوروبا حتى الآن التعافي منها.
وعلى الصعيد الاقتصادي، كما ذكرنا سابقاً، تأثير كورونا والركود الذي نتج عنها وكذلك تأثير الحرب الروسية- الأوكرانية وارتفاع أسعار السلع التي تستوردها الدول الأوروبية من روسيا وأوكرانيا، واعتماد أوروبا بشكل كبير على الغاز الروسي؛ مما أدى إلى ارتفاع أسعار الغاز الذي من الممكن أن تنتج عنه أزمات داخلية في بلدان الاتحاد.
وعلى الصعيد الأمني ترى الدول الأوروبية أن الهجوم الروسي ينذر بأن روسيا من الممكن أن تقوم بأي عمل عسكري آخر يهدد بلدان الاتحاد إذا شعرت بالخطر، وهذا ما دفع دولاً عدة في الاتحاد إلى رفع الإنفاق العسكري لديها، وهذا مؤشر على شعور أوروبا بخطر حقيقي من أي حرب روسية مقبلة.
بينما ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن الحرب الروسية- الأوكرانية هي ضربة لروسيا، وأنها استطاعت جر روسيا إلى حرب استنزاف اقتصادياً وعسكرياً، كما أنها استطاعت تقديم كميات كبيرة من الأسلحة لأوكرانيا؛ لهذا تعتبر الولايات المتحدة أن الحرب الروسية- الأوكرانية لا تشكل خطراً عليها، بل على العكس فهي تعتبرها حرباً قد تؤثر على روسيا على المدى البعيد.
وهنا نجد أن الرئيس الأوكراني يقع في حالة من التخبط بين الحليفين الغربيين؛ مما يؤثر على سير المفاوضات، فالأوروبيون يريدون إنهاء الحرب بأي طريقة وبأسرع وقت ممكن، ولكن الولايات المتحدة إلى جانبها بريطانيا لا ترى أي مشكلة بتوقيت انتهاء الحرب، بل بشكل الاتفاق الذي سيخرج، والذي تريد أمريكا وبريطانيا الحرص على عدم تحقيق روسيا أي مكاسب منه، وخاصة مكاسب اقتصادية.
كما تريد استعادة الأراضي التي احتلتها روسيا لإبعادها عن المياه الدافئة وخرج التطور الجديد في المطالب الأوكرانية بعد أيام على زيارة قام بها رئيس وزراء بريطانيا لكييف. وهنا تحت هذه الأهداف المختلفة نستطيع أن نفهم التخبط الأوكراني في تحديد أهداف واضحة للمفاوضات، والتي ستشكل خطراً بانهيار أي مفاوضات قادمة إذا لم تستطِع أوكرانيا الخروج بخارطة طريق ومطالب واضحة تجلس من خلالها على طاولة المفاوضات.
تطورات الميدان
بعد الهدوء الذي ساد أرض المعركة في الأسابيع السابقة، وخاصة بعد لقاء إسطنبول، حدث تطوران ممكن أن نتنبأ من خلالهما ما الذي يمكن أن يحدث في الأيام المقبلة، فمن الواضح أن انتهاء الحرب لم يعد قريباً، وأن الحل الدبلوماسي دون وضوح بالموقف الأوكراني وتراجع روسيا عن موقفها تجاه دونباس والقرم لن يحقق أي تقدم، لهذا يتجه الطرفان إلى تقوية جبهاتهما العسكرية؛ حيث إن هناك حديثاً عن تقديم أسلحة جديدة إلى أوكرانيا من الجانب الأمريكي عبارة عن صواريخ مضادة للدبابات وصواريخ أرض- جو وأسلحة مختلفة أخرى.
أما على الجانب الروسي، فقد نقلت هيئة الإذاعة البريطانية عن مصدر مطلع القول إن الجنرال ألكسندر دفورنيكوف، الذي قاد العمليات العسكرية في سوريا، سيكون قائداً للحملة الروسية في أوكرانيا، ويعرف عن القائد العسكري الجديد أنه من وضع استراتيجية روسيا خلال الحرب السورية، والتي اعتمدت على السيطرة على المدن ومحاصرتها، ويستعمل استراتيجية الحرب الطويلة واستنزاف العدو، وهذا ينذر بأنه من الممكن أن تتجه روسيا إلى إطالة الحرب الروسية والعمل على تثبيت الوضع الحالي للحرب لحين تقديم أحد الطرفين التنازلات اللازمة لحل الأزمة.
وهذا ما يدل على أن الحرب الأوكرانية- الروسية من المحتمل أن تكون أطول مما يعتقد، وهذا ما سيؤثر على العالم بأسره ليس فقط روسيا وأوكرانيا، بل على الاقتصاد العالمي، كما أننا بدأنا نرى بوادر صراع جديد على مستوى العلاقات الدولية، والتي ممكن أن نراها بوضوح من خلال ما حدث في الأيام السابقة في باكستان، والتي أدت الى الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء السابق عمران خان، الذي بدوره اتهم الولايات المتحدة بالإطاحة به بعد الاتفاق الذي عقده مع روسيا بشأن استيراد الغاز الروسي، فهل سنرى إعادة تشكيل لمعسكرات دولية نتيجة هذه الحرب أم أن الحل الدبلوماسي سيعود إلى الطاولة من جديد؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.