دوامة كل عام؛ لعنة تطال مسلسلات عربية عدة، يُشار لها بالفجور والفسق. إنهم يدعون إلى الفاحشة "في رمضان، في رمضان، اتقوا الله"؛ صيحةٌ أطلقها شهيرٌ "كادحٌ" في وسطٍ يُتهم بتصدير الفجور، إلا أن هذا الشهير يقول إني وبعض أصدقائي أبرياء من الانحلال والمجون. صيحته تُعبر عن راغبين في رفع مستوى محاسبة النفس والرقابة عليها.
هل يستطيع أشخاص قليلون تغيير هذا الواقع؟ أم الأمر يحتاج لأن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب هؤلاء؟ ممثلة في مسلسلٍ تُخاطب أختها بلفظ "يا وسخة"، وبلطجي يظنّ نفسه بطلاً، وإيحاءات جنسية في مشاهد عدة، والخيانات الزوجية باتت مادةً للمُزاح أو أمراً طبيعياً، أما احترام الأب والأم والكبير فأمسى من الثانويات؛ هذه أبسط أمثلة السفه التي تُصدرها عدة أعمالٍ تُوصف بـ"مُسلسلات دراما" خلال شهر رمضان.
من أخلاقية مُهيمنة على الأعمال الفنية التي اُنتجت خلال حقبة التسعينات؛ "بيت العيلة"، "أبناء ولكن"، "الزير سالم"، "لعبة الحياة"، "أيام شامية"، وغيرها الكثير، إلى طفح الانحطاط واللاأخلاقية بعد تجاوزنا لعام 2010 على أقل تقدير. ما الذي حدث حتى سقطنا في هذا الوحل؟
عوامل الإسفاف
العوامل جمّة.. العالم بقيادة الغرب تخلى عن دعم التوجه الأخلاقي الذي كان مدعوماً لمواجهة الشيوعية، بعد عام 1991 لم يُعد هناك حاجة لهذه الأخلاقية، لذلك أُجمع على تطبيق ما ورد في وثيقة "إجماع واشنطن" الصادرة عام 1989؛ تلك الوثيقة التي تدعو إلى تحرير كل ما تملكه الدولة، ليستثمر القطاع الخاص في كل شيء. هذه الوثيقة المُستنيرة بظلمات الرأسمالية جادلت بتخفيف رقابة الدولة على القطاع الخاص حد إلغاء هذه الرقابة إن أمكن. والسؤال: هل يُفضل القطاع الخاص رفع مُعدّل الاستهلاك أم الأخلاق والقيّم؟
الجواب: فلتغُر القيم في داهية، وليعِش الاستهلاك القائم على تغذية وتهييج الغرائز، والسقوط لم يكن مدوياً بل جاء تدريجياً، واكتمل بعد دخولنا في الألفية الثالثة؛ عام 2000 وما بعده.
طائرةٌ تدخل برج التجارة؛ لقطةٌ شهيرةٌ لأحداث 11 سبتمبر. نور الشريف فنان مصري، قال في أحد البرامج إن الصورة العامة للإعلام والسينما حول العالم أصبحت بعد أحداث 11 سبتمبر مُسيّرةَ نحو التحفيز على الاستهلاك ورفع العدمية؛ عدم الأخلاق –عدم القيمة –عدم الفكرة – عدم المحتوى، وفي النهاية نشر الأفكار العبثية.
انغماس العالم بالاستهلاك، والابتعاد عن القيّم المحلية؛ يُسهلان السيطرة على عقول الشعوب ووعيّهم الجمعي؛ لأن البنية التحتية؛ من رأس مال ومصادر الإنتاج، تحدد طبيعة البنية الفوقية؛ من ثقافة وسياسة وتوجه مُجتمعي.
بعد ثورات "الربيع العربي"، زاد الاستثمار في العبث والعدمية لإلهاء الشعوب بسفاسف الأمور.
الشبكة المعلوماتية "الإنترنت" زادت من انتشار العدمية، تخيّل أن عائلات مُحترمة تحوّلت لطغمة من الراقصين وفاضحين لأعراضهم مقابل مالٍ تعدهم به منصات عدة. وبطبيعة الحال، رقابة الدولة لم تعد فاعلةً كما كانت تخضع القنوات؛ العامة والخاصة، لإدارة مركزية.
أغلب محتوى الإنترنت يستحث باطن اللاوعي عند الإنسان؛ ذلك الباطن الزاخر بالرغبات والغرائز والملذات بُغيةَ زيادة المُشاهدات وما بينها من إعلانات استهلاكية، وللأسف يقل المحتوى المُخاطب للوعي الذي يحرك روح المحاكمة الأخلاقية الداخلية التي تربط السلوكيات بقيّم المجتمع وأخلاق، وفي ظل غياب الرقابة المجتمعية الحازمة كما كانت، تُصبح المعادلة في صالح المحتوى المخاطب للاوعي أكثر منه المخاطب للوعي. وفي منتجات الصناعة الثقافية؛ من مسلسلات وأفلام وبرامج، كأن الغالبية انجرت نحو حسابات اللاوعي.
المجتمع مذنب هو الآخر
المشهد ليس سوداوياً.. الفن مرآة المجتمع، وما يقدمه كثيرٌ من المُسمين "فنانين" يتم بناءً على طلب الجمهور، وعدد المُشاهدات معيارهم. انظر إلى مسلسل ذي فكرة وآخر تافه، ستجد التافه أنجح بكثير، وهنا يظهر الخلل الذي أحدثك عنه بين اللاوعي الغرائزي والوعي الأخلاقي. خلل أضحى مُهيمناً على وضعنا الثقافي. مهرجان اسمه "الجونة" فيه يسوق ملياردير بعضاً ممن يُسمى فنانين كما يسوق الراعي غنمه. ولا تغفل عن شاعر الأهازيج (تركي آل الشيخ) قارون بلاد الحرمين. يجر أكبر رأس "فنية" لمزرعته الإنتاجية؛ وتقييم محتوى هذه المزرعة يعود لك.
معادلة دفعت المجتمع ليرى في الاستهلاك قيمة رمزية. دعايات ضخمة بين مشاهد المُنتجات الفنية تُشكّل هذه القيمة. قيمةٌ أصابت طيفاً كبيراً من المجتمع بالجنون. كثيرون يلهثون نحو إشباع رغابتهم الترفيهية.
هيمنة رأسمالية هدفها الربح لا غير – دعايات ضخمة – قيمة رمزية استهلاكية – مُجتمع استهلاكي – مُجتمع أقل أخلاقية وقيّم وبالتالي الصراع محتدم بين أفراده – صناعة ثقافية؛ مسلسلات وأفلام وأغانٍ، تُغذي الحالة؛ فالفن مرآة المجتمع ونجاح الفن مُرتبط بالحالة المُجتمعية والهيمنة الاقتصادية. هكذا سلسلة المُعادلة، ليست صعبة؛ تأمل قليلاً.
في النهاية الموضوع ليست مؤامرة عالمية؛ بل توجهٌ فكريٌ يُواجه بتوجهٍ فكريٍ بديل مقابل له. الأمر ليس معقداً لفهمه، فقط يحتاج لخمس ثوانٍ من التأمل. هل لديك الجرأة لتخصيص 5 ثوانٍ تُفكر فيها كيف يمكن أن أحاسب نفسي قبل أن أحاسبهم؟
الحل لهذه المعادلة بسيط، هناك غياب لرقابة الدولة فبت أنت رقيب نفسك وأسرتك أمام التلفاز والإنترنت ومخيّر في تحديد ما تريد مُتابعته، فضلاً عن الحاجة الماسة لتقديم محتوى يجابه أمواج التفاهة العارمة، والجبال أصلها حصى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.