مع قرب الاستحقاق الانتخابي في لبنان، أقفل باب الترشح على ما يزيد على ألف مرشح من كافة الجهات؛ مرشحي أحزاب السلطة، مرشحي أحزاب المعارضة، ومرشحين آخرين لهم حيثياتهم المناطقية التي اكتسبوها جراء مشاركاتهم في فعاليات اجتماعية أو احتجاجات الثورة على الوضع البائس.
كيف يؤثر فهم خصائص الجمهور على خيار الفرد في الانتخاب؟ نستعرض في هذا المقال، وفي مقالات لاحقة، بعض خصائص الجمهور التي فهمتها أحزاب السلطة واستطاعت استعمالها لفرض هيمنتها على الشعب.
الحاجة الفطرية للقائد
إن الفرد قادر على تأمين حاجاته الأساسية من غذاء ومسكن بالاعتماد على خبراته ومعارفه، وهو عادةً عاجز عن تأمين المتطلبات الأخرى اللازمة له كالحماية من المخاطر وتأمين الوظائف والاستقرار، والتي يؤمّنها له القائد. فلا بدّ للناس من البحث عن الشخصية التي يثقون أنها تتقن فنّ قيادتهم في الدولة أو المنظومة التي ينتمون لها. وليس باستطاعة كل فرد أن يكون قائداً، فهو مثلاً يبرع في مجاله وتخصصه ولكنه يفتقد غالباً لباقي الخصائص التي تمكّنه من قيادة المجتمع. ومن أهم خصائص القائد هي قدرته على التأثير في الجمهور ومنحه الإحساس بالأمان والاستقرار.
والقائد غالباً ما يكون في بدايته صاحب فكرة سيطرت عليه فآمن بها وبدأ بتسويقها في محيطه. قد تكون الفكرة طائفية أو دينية كما هو الحال في لبنان، يضيف القائد إليها الكثير من العمل والممارسة على الأرض والانخراط بين الناس ومتابعة حاجاتهم ليفرض شيئاً فشيئاً شخصيته القيادية. وبطبيعة الحال، يلتفّ الناس حول هذا القائد وحزبه حيث وجدوا عنده مبتغاهم.
وهكذا، باتت تنعم أحزاب السلطة في لبنان بحضور تاريخي لدى الكثير من الناس يسهّل عليها مخاطبة جمهورها والبقاء في أذهانهم. يعود أساس هذا الحضور إلى حاجة الناس الفطرية إلى وجود القائد، بالإضافة إلى طرح الأحزاب أفكاراً لاقت قبول الجماهير ومساهمتها في تأمين حاجاتهم. والتاريخ اللبناني مليء بالقيادات الطائفية التي شكلت نواة يتحلّق حولها الجمهور. غالب تلك القيادات استثمرت في التنوع الطائفي وضعف الدولة وخدّرت جمهورها بفكرة حماية الطائفة من خطر الطوائف الأخرى. وكان آخر القيادات التي عاثت في البلاد فساداً هي ما أفرزته الحرب الأهلية من أمراء حرب سيطرت عليهم أفكار طائفية ما زالوا يسوقون الجماهير بها حتى اليوم.
استغلال حاجات الجمهور للهيمنة عليه
كلنا نعلم مدى الهيمنة التي تمارسها الأحزاب على النفوس والتي تمكّنها من حكم الشعب والسيطرة عليه. وفي ظل الغياب التام للدولة، بات الناس يعيشون تحت هيمنة شاملة فرضتها عليهم الأحزاب تطال غذاءهم واقتصادهم وأمنهم.. فمن الأحزاب التي تأتي بالتمويل من الخارج وتوزع الفتات على جمهورها ما يكفيه لسد جوعه، إلى تلك التي تكون ممرّاً إلزامياً لكل باحث عن عمل في وظائف الدولة، إلى من يهدد الناس في أمنهم إن هم طالبوا بحقوقهم. فرضت هذه الهيمنة والسيطرة قوتها على الجماهير.
وعواطف الجمهور غالباً ما تكون محافظة ومتّجهة نحو الزعيم ولو كان مستبداً يفرض نفسه وقوته عليها. ونحن نرى كيف أن بعض الجماهير في لبنان لم تنقلب على أحزابها في الثورة رغم الاستبداد الذي مارسته تلك الأحزاب في قمع من تجرّأ على ذلك. فالجماهير باتت محكومة باللاوعي ولا تمانع في تقديم الطاعة لحزب مستبدّ أو فاسد طالما أنه ما زال قادراً على تأمين حاجاتها.
بمعنى آخر، باتت الجماهير عمياء عن رؤية أي بديل عن زعيمها ذلك، خصوصاً في ظل انهيار الدولة. وهذه الطاعة ليست من سمات الجمهور في لبنان فقط بل في كل الجماهير وفي مختلف الأزمان. والتاريخ أخبر كيف أن الشعب الألماني ظلّ مطيعاً للمستبد هتلر ولم ينتفض لسنين رغم الويلات التي جلبها زعيمه على البلاد بل كان متحمساً لفكرته بسيادة العرق الآري ورأى في قوة زعيمه العسكرية حمايةً وأمناً له.
وهكذا تصبح الجماهير رافضة لأيّ دور لشخصية سياسية جديدة قد تحلّ مكان الحزب الحالي، سواء كانت مختارةً لذلك أم كارهة. وكلما زادت السطوة على الجماهير زاد تعصّبها ورفضها لأيّ وجه جديد. وهذا ما نراه في لبنان من أحادية أو ثنائية زعامة طائفة معينة والترهيب الممارس على كل الوجوه الجديدة، بمباركة أو سكوت الجمهور المحافظ.
تطرف الجماهير في عواطفها
وبما أن الجمهور الحزبي قد وجد أمانه واستقراره تحت قيادة زعيمه، فإنه يستشرس عند إحساسه بأي خطر يهدد انتظام حياته في كنف ذلك الحزب. ويجري استثمار ذلك الخطر والمبالغة فيه لتجييش عواطف الجمهور عبر طرح أفكار مخيفة كالتهديد الوجودي أو إلغاء الأقليات أو التعدي على الصلاحيات. وقد فهم الساسة ذلك وتمكّنوا من تحريك الجماهير عبر إثارة العواطف المتطرفة فيهم.
وبما أن للجمهور حاجات كثيرة لدى قائده، فإن الفرد فيه يلجأ للتطرف عند ملاقاة الخصم. وقد يتطرف في خصومته إلى حدّ حمل السلاح والموت في سبيل الدفاع عن حزبه وقائده. وكنا قد شاهدنا كيف أن أحداثاً كإقالة موظف أو استدعاء مسؤول إلى القضاء تم استثمارها من قِبَل القيادة الحزبية في حشد الجماهير والقيام بأعمال عنف. هذا التجييش ما كان سيحصل بنفس حدة التطرف لو أن الجماهير تعيش في كنف دولة قوية تؤمن لها حاجاتها وتحميها. ولذلك فإن الأحزاب في لبنان تزيد من إضعاف سطوة الدولة للإمساك والسيطرة على الجمهور.
إن طريق التغيير طويل والانتخاب محطة للانتقام وفرصة أمل لإحداث الفرق التراكمي في كل مرة. كما أن فهم خصائص الجمهور ضروري جداً ويكاد يكون واجباً على كل ناخب مؤتمن على صوته. ومن المهمّ أيضاً إدراك الاستغلال الذي تتعرض له الجماهير في حاجاتها من قِبَل أحزاب أضعفت الدولة لتزيد من سطوتها. فهل عرفت إلى أي مدى تتلاعب الأحزاب في جماهيرها؟
يتبع…
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.