أثار مسلسل "فاتن أمل حربي"، الذي كتبه الصحفي إبراهيم عيسى، زوبعة من اللغط والجدل حول الفكرة والمحتوى والتناول، فلقد تناول في مسلسله أحد أشد الموضوعات إشكالاً وتعقيداً، وهي قضايا الأحوال الشخصية، وخلافات الطلاق والنفقة والحضانة، وهذا المقال لا يهدف لنقد العمل من زاوية فنية، ولا التعرض لأفكار مؤلفه بالتقصي والتبيين، بل أود أن أعرض جانباً من حوار دار بين السيدة فاتن، المطلقة التي تسأل شيخاً أزهرياً في مسألة خاصة بالولاية والحضانة، ومن خلال هذا الحوار تبرز عدة أسئلة منهجية، يهدف المقال للإجابة عنها بهدوء، في ضوء عرض علمي بعيد عن المغالطات.. فلنشاهد معاً هذا الحوار:
انتهى الحوار هنا، وبعيداً عن الخلط الواضح الذي يكشف عدم توفر دراسة فقهية أو قانونية كافية لمعالجة مسألة الحضانة في كتابة السيناريو، فهناك فرق بين مسألة ترتيب المستحقين للحضانة في حالة زواج الأم، ومسألة الولاية على أموال الصغار، وهما مسألتان مختلفتان تماماً، ولكن هذا ليس موضوعنا اليوم، فهناك عدة أسئلة أهم وهي:
هل المسلمون ملزمون بما في القرآن الكريم فقط، باعتبار أنه "ما قاله الله"؟
ما الفرق بين كلام الله والفقه؟
من الذي يمكنه أن يستخرج الحكم الشرعي من مصادره؟ هل يمكن لعموم الناس القيام بهذه المهمة؟
هل هناك أحكام شرعية "لا تحتاج لدراسة" لمعرفتها؟
الحقيقة أن هذه الأسئلة مهمة، بل غاية في الأهمية، والإجابة عنها ستحل الكثير من الإشكاليات التي تطفو على الساحة كل فترة، وسأسعى للإجابة عن هذه الأسئلة بصورة مختصرة، بحيث نحل معاً هذه المشكلة التي تعتبر أكبر وأهم وأخطر من اللغط، حول بعض المسائل التفصيلية في قانون الأحوال الشخصية أو غيره.
هل المسلمون ملزمون بما في القرآن فقط؟
هذه الفكرة قديمة، لها جذور بدأت مع فكر بعض طوائف الخوارج، الذين أنكروا السنة النبوية، وقالوا بالاكتفاء بالعمل بالقرآن الكريم، وكان لهذا الفكر انعكاس على بعض اتجاهات المعتزلة، وصولاً إلى مَن يسمَّون بـ"القرآنيين"، أي الذين يتبعون القرآن دون السنة النبوية أو غيرها من أدلة الأحكام.
والحقيقة أن الرد على هذا الأمر قُتل بحثاً، وتصدَّر له علماء أفذاذ بالرد، ويكفي أن القرآن نصَّ على وجوب اتباع أمر النبي ﷺ ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]، وفي الحديث الشريف (يوشك أن يقعد الرجل متكئاً على أريكته يحدّث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)، رواه أبو داوود والترمذي، كما أن هذه الأفكار تصطدم مع عوائق تطبيقية، مثل أن الكثير من الأحكام الفقهية ثبتت بالسنة والإجماع، مثل طريقة أداء الصلاة ومواقيتها، ولو اقتصرنا على القرآن فقط باعتباره "ما قاله الله"، وفق تعبير السيدة فاتن، فلن نتمكن من أداء أي عبادة!
والذي خلص إليه غالب أهل العلم أن السنة صورة من صور الوحي الإلهي، فالنبي ﷺ لم يكن ينطق عن الهوى في بلاغه عن الله تعالى في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية، التي حوت توجيهات تشريعية وعملية ضرورية لتنفيذ ما ورد في القرآن الكريم من أوامر ونواهٍ.
ما الفرق بين كلام الله والحكم الشرعي؟
سأحاول هنا التخلي عن المصطلحات التي نستخدمها في علم أصول الفقه، ومجاراة كاتب السيناريو في مصطلحاته، حتى يسهل توضيح المراد، لذا فعندما نتساءل: هل كلام الله هو الفقه في ذاته؟ أم أنهما شيئان مختلفان؟
الإجابة أن هناك اختلافاً بين كلام الله تعالى وبين الفقه، فالفقه هو نتيجة تنزيل كلام الله على الحدث، بمعنى أن كلام الله هو المصدر، والحكم الشرعي هو الثمرة أو النتيجة، والخلط بين الأمرين خطير، لأن معرفة الآية أو الحديث لا يكفي لتطبيقه على الواقعة محل النظر، فقد يحصل الخطأ في فهم النص أو في إدراك مقتضاه، أو قد يحصل الخطأ في استخدامه في غير موضعه! إذاً فالمسألة ليست ببساطة البحث عن وجود الآية أو الحديث، بل المشكلة في تحويل هذه المعرفة إلى حكم شرعي قابل للتطبيق في الواقع.
مَن الذي يمكنه أن يستخرج الحكم الشرعي من مصادره؟
هل يمكن لعموم الناس القيام بهذه المهمة؟
من المتفق عليه أنه ليس في الإسلام رجال دين يحتكرون المعرفة الإلهية ويتحدثون بالحق الإلهي، كما أنه لا توجد قدسية لكلام أحد من البشر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن القرآن والسنة والعلوم الإسلامية ليست مكتوبة بلغة منقرضة أو سرية، بل هي مكتوبة باللغة العربية الفصحى، فهل هذا يعني أنه يمكن لأي مسلم أن يستخرج الحكم الشرعي من مصادره؟
الإجابة هي نعم بالطبع، يمكن لأي مسلم أن يقوم بهذه المهمة، بشرط واحد، وهو أن يمتلك الأدوات التي تؤهله للقيام بهذه المهمة، فببساطة يمكنك أن تكون طبيباً إذا تعلمت الطب، ومهندساً إذا تعلمت الهندسة، وهكذا يمكنك أن تقوم بنفسك بتشخيص الأمراض أو تصميم المباني إذا قمت بدراسة كيفية ذلك، وتعلمت أصول الطب أو الهندسة، ومعرفتك باللغة الإنجليزية مثلاً باعتبارها اللغة التي كتبت بها غالب كتب الطب والهندسة لا تكفي وحدها لتكون طبيباً أو مهندساً.
وبالمنطق ذاته علينا أن ندرك أن علوم الشريعة لها أصول وأدوات، مَن تمكن منها يمكنه أن يستخرج الحكم من النص مباشرة، ومن لم يمتلك هذه الأدوات فعليه أن يلجأ لمتخصص يستشيره أو يستفتيه في أمر دينه، كما يستشير الطبيب في أمر الصحة وهكذا. أما فوضى أن يقول كل واحد برأيه دون دراسة مناسبة فهو ما لا يقبله إنسان عاقل، فالعاقل لا يقبل في علاج أولاده إلا رأي أفضل الأطباء، ولا يقبل السكن إلا بمبنى صممه مهندس كفء حرصاً على أرواح عائلته، ولا يقبل أن يقوم بنفسه بفعل هذه الأمور إذا لم يكن طبيباً ولا مهندساً، فلماذا يقبل أن يفتي برأيه من دون أن يتأهل للقيام بهذه المهمة؟
هل هناك أحكام شرعية "مش محتاجة دراسة" لمعرفتها؟
قالت السيدة في الحوار: "أنا أتحداك إن ربنا ما قالش كده!"، "الحاجات دي مش محتاجة دراسة، ربنا عادل ورحيم، والرحيم مش هيحرم أم من عيالها".
الفكرة هنا غاية في الخطورة، حيث يفتح الباب أمام إنكار وجود النص الشرعي (بمفهومه العام) بمجرد الهوى، ففكرة العدالة والرحمة بالنسبة للناس نسبية، لأنهم لا يعلمون تفاصيل حكمة الله، فقصة موسى والخضر في سورة الكهف تُعلّم المسلم هذه المنهجية في التفكير، حيث قام الخضر بأفعال في ظاهرها ظلم واعتداء في حين أن باطنها إصلاح وخير، فلا يمكن لأي واحد أن ينكر شيئاً لا يعرفه ولم يبحث في وجوده، وفوق ذلك يمكن أن يكون ما أنكره نص قرآني أو حديث نبوي صحيح، وحديثي هنا عن منهجية التفكير التي أدت إلى هذا الحوار، وليس عن مسألة حضانة الصغار.
في هذا الحوار الصغير اجتمعت الكثير من الأغلاط الفقهية والمغالطات المنطقية، في إطار خلل منهجي خطير في التعامل مع قضايا حرجة، مثل العلاقة مع السنة المطهرة والتعامل مع الحكم الفقهي، وغيرها من الأمور التي تشير إلى خطورة ما يقدمه هذا المسلسل من أفكار، سواء على الصعيد المنهجي أو الصعيد التطبيقي العملي، والحقيقة أنه ينبغي أن تنبري الكثير من الأقلام لمواجهة هذه الأفكار الخطيرة، التي يعمل أصحابها على التسلل إلى عقول المسلمين بين طيّات الكلام ومشاهد الدراما.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.