فاتن أمل حربي.. عمَّ يتحدث؟
في المجتمعات الإنسانية، تتعقد العلاقات بين البشر، وينتج عن ذلك التعقيد الحتمي بطبيعة الحال مشاكل وقضايا مأساوية تتوق وتتعطش إلى الحلول، ودورنا كجزء من هذه المجتمعات الإنسانية بشكل عام ولمجتمعنا المصري بشكل خاص أن نقوم بطرح وعرض هذه القضايا والمشاكل كي نستطيع إيجاد حل لها، ومثل هذه المشاكل التي طالما كانت مستعصية في مجتمعنا وتنتظر الحل، مشكلة الطلاق وتبعاته كالحضانة والولاية ومستحقات الزوجين… إلخ.
لذا حين يتم صياغة عمل درامي مثل "فاتن أمل حربي" يختصّ بعرض هذه المشاكل كي يدق ناقوس الخطر عند العامة فيتحركوا سعياً لإيجاد الحلول يجب علينا أن نقوم بتشجيع هذا العمل والثناء عليه، فهدفه بالبحث عن حلول لتلك المشاكل التي يستعرضها هدف نبيل يجب أن نتشارك جميعاً في تحقيقه.
وبالتالي لطالما كانت قضايا المرأة من أنبل الأهداف التي قد يجاهد الإنسان في حلها، ولكن حين يتم استغلال تلك القضايا في التسويق لأفكار غريبة وغير مقبولة ودس السم داخل العسل كما يقولون، علينا جميعاً أن نتوقف ونفكر، فمثل هذه الأطروحات لقضايا المرأة لن يحقق شيئاً سوى وصمها بمعاداة الدين والدولة والمجتمع.
وبالطبع لم يستطع شهر رمضان المبارك أن ينفد بجلده من تلك المأساة، وقد حوله نمط الحياة الغربية التي يحاول المواطن العربي تقليدها إلى كريسماس ممسوخ، فأصبح شهراً مختزلاً في كونه موسماً للأعمال الدرامية والإعلانات والمنتجات وتحرك الأموال.
"فاتن أمل حربي" هو مسلسل من تأليف إبراهيم عيسى، وبطولة نيللي كريم وشريف سلامة وإخراج ماندو العدل وإنتاج العدل جروب.
ومن النقاط المثيرة للاهتمام حول هذا المسلسل هو أنه أولى تجارب الكتابة "الدرامية" لإبراهيم عيسى، لذا ما الذي قد يحتويه عمله الأول في الدراما من سقطات فنية وأفكار يحاول الكاتب المثير للجدل دائماً بآرائه، تسويقها.
السم.. والعسل
يمكننا بكل بساطة أن نأخذ فكرة واضحة حول مسار مسلسل "فاتن أمل حربي" وما يريده الكاتب من الحلقة الأولى، حيث بدأت الحلقة الأولى بقيام "سيف" والذي يقوم بدوره شريف سلامة بإغلاق كافة نوافذ منزله بالأخشاب والمسامير، وبسبب صوت طرقه تستيقظ زوجته "فاتن" والتي تقوم بدورها نيللي كريم، وحين تحاول الزوجة الاستعلام عما يقوم به الزوج، يخبرها سيف بأن فعلته سببها أنها كانت تفتح النوافذ.
ثم تبدأ مشاهد الحلقة وحواراتها في إظهار قدر التحكم والهيمنة والطغيان الذي يمارسه الزوج سيف على زوجته المسكينة فاتن، فيمنعها سيف من الخروج من المنزل، ويُحرم عليها كذلك التحدث إلى الرجال، بل وصل به الحد والتطرف إلى أن يأمرها بارتداء الحجاب!
بالطبع تتصاعد حدة المشاهد، فتتهم فاتن المسكينة سيف بأنه مصاب بخلل عقلي ما، فيلقي سيف مطرقته في وجهها ولكنها تتفادها، وهكذا تتسبب هذه المشاكل بين الزوجين في طلاقهما، فتشعر فاتن بالسعادة نتيجة تخلصها من ذلك الظلم الذي كان يقبع فوق صدرها لسنين طويلة، ولكنها سرعان ما تتصادم مع الواقع، حين تدرك أن كابوسها لم ينتهِ بل هو لم يبدأ بعد حيث يبدأ الصراع بينها وبين سيف على حضانة الأطفال.
يرصد مسلسل "فاتن أمل حربي" قضية مهمة وعميقة جداً من القضايا الاجتماعية الأسرية، ويعرضها كذلك للنقاش على الرأي العام الذي ربما قد يغفل عن مثل هذه القضايا، وهذا بالتأكيد هدف نبيل.
ولكن هل تبرر الأهداف النبيلة وسائل غير أخلاقية؟ هل الغاية تبرر الوسيلة حقاً كما يقولون؟
إن نقاش مثل هذه القضايا الحقوقية والتي تهم الرجل كما تهم المرأة، بل تهم المجتمع كله هدف عظيم، ولكن ألا ينبغي أن يتم تصوير الواقع كما هو دون محاولة استغلال حالة الاستقطاب داخل وسائل التواصل الاجتماعي وتصوير قطب كامل كشيطان دون مقدمات أو دوافع؟، ألا يجب أن يكون نبل الهدف وسموه حائطاً منيعاً أمام محاولة دس أفكارنا السامة داخل ما نكتب؟
هكذا كانت الحلقة الأولى من "فاتن أمل حربي"، فالكاتب إبراهيم عيسى لم يعبأ بفنيات شخصياته وتركيباتهم ودوافعهم وهوياتهم، فقد اكتفى بتصوير الرجل كمختل عقلي مطلق الظلم والطغيان دون دوافع أو تفسيرات، شخصية ذات جانب واحد أحادي، ليست بشرية متعددة الجوانب، بل روبوت غرضه الوحيد هو خدمة سردية كاتبه، فيمنح الاتجاه النسوي خيالاته على طبق من ذهب في محاولة يائسة للتمسح بذلك الاتجاه الفكري.
بل لم ينتهِ الأمر عند ذلك الحد، ففي قمة طغيان الزوج والذي جعله الكاتب شراً مطلقاً، نجده يأمر زوجته بالحجاب، فيتم وصم الحجاب بطبيعة سياق المسلسل بشكل عام والمشهد بشكل خاص بأنه ليس أمراً إلهياً، أو شعيرة إسلامية، بل مجرد وسيلة ذكورية يستغلها الرجال للهيمنة على الأنثى وتحطيم شخصيتها الفردية.
ماذا يريد إبراهيم عيسى؟
والآن عند هذه اللحظة التي أخط بها هذه الكلمات، لم يحاول المسلسل علاج هذه المشاكل، بل فاقمها أكثر فأكثر، فإبراهيم عيسى المؤلف متواضع في قدراته الفنية، لا يتوق صبراً على عجينته الأدبية إلا ويغرقها بآرائه وأفكاره السامة المعادية للدولة والدين والمجتمع.
فترى في الحلقة الخامسة مثلاً فاتن المسكينة في حوار مع شيخ أزهري، حيث تسأله فاتن عن قول الله تعالى في قرآنه حول سقوط حضانتها للأطفال إن تزوجت، ثم تنتظر الإجابة، بالطبع في الوضع العادي وفي الواقع، ستجد الشيخ الأزهري الحقيقي يقوم بسرد إجابته المثلى بالدليل الشرعي من القرآن والسنة، ولكن الشيخ الأزهري في مخيلة إبراهيم عيسى عاجز كل العجز عن الرد عن مثل هذه الأسئلة البسيطة فيكتفي بقوله: "أنا قلت لك الكلام اللي أعرفه، أو بمعنى أصح الكلام اللي حافظه أو اللي ينفع أقوله".
بالتالي يبدو واضحاً للعوام كيف يسيطر على المؤلف الجهل الديني بالعلم الشرعي، بل كيف يحاول تصوير مؤسسة في عراقة الأزهر بمظر الجهل.
ثم لا يكتفي الكاتب في "فاتن أمل حربي" بإظهار الشيخ الأزهري بهذا الشكل المثير للشفقة، بل يجعل شخصية بطلته فاتن تعادي الدين ورب الدين، فنجدها في ذات الحوار تصوغ جملتها الأخيرة بهذه الطريقة: "ربنا عادل ورحيم، والرحيم مش هيحرم أم من عيالها".
بالطبع يظهر جلياً مدى العوار والخطأ في جملتها، فقد قامت المسكينة بجعل الرب خالق الكون خاضعاً لحكمها الخاص ومفهومها الشخصي لمعنى الرحمة، فالرب الرحيم بالنسبة لها لا يجد غضاضة في حرمان الأب من حقه في حضانة أطفاله كذلك، بالتالي هو رب موافق لمصلحتها وهواها فقط وبالطبع هذا الطرح العجيب ليس غريباً على الفكر النسوي ولا على المؤلف.
فالكون وخالقه في بعض الأدبيات النسوية ووجهة نظر إبراهيم عيسى، يجب أن يقدما فروض الولاء والطاعة للأنثى ومصلحتها فقط، متجاهلين بذلك كل البديهيات العقلية والمبادئ الإنسانية والدينية، وجاعلين الرب نفسه خاضعاً لسلطتهم.
في النهاية يظهر الأمر جلياً للعيان أنه منذ الحلقة الأولى للمسلسل يظهر الاتجاه الذي سيسلكه بوضوح في نقاشاته لمشكلة الأسرة المصرية المعقدة، فهو سيتناولها بشكل سطحي، حيث ستكون بين قطبين واضحين، قطب يمثل رجلاً ظالماً مطلقاً وقطب يمثل أنثى ملائكية تخضع الرب لسلطتها البشرية، محاولاً بذلك استغلال حالة الاستقطاب المسيطرة على الساحة بسبب الخطاب النسوي المتطرف في طرحه والخطاب الذكوري المتطرف هو الآخر، المضاد له بالكيفية العنيفة نفسها.
والآن بعد تتابع عدة حلقات من مسلسل "فاتن أمل حربي"، نجد أن المشكلة تمتد ولا تتم معالجتها، فالحوارات سرعان ما تتحول إلى حوارات سطحية، وكأنها طرح للقضية من طرف واحد فقط، بل وكأنها حلقة من برنامج الكاتب حيث يعرض فيها رأيه الخاص ولا مجال لرأي آخر أمامه.
فذات المشكلة التي تواجه السيدة فاتن بعدما طلقت من زوجها، تواجه العديد من الرجال أيضاً، والذين سرعان ما يجدون أنفسهم معرضين للتهديد بفعل قائمة منقولات قد تورده المهالك، أو قانون أحوال شخصية قد يسلبه كل أمواله، بل حتى بعيداً عن الرجال، العديد والعديد من الحالات التي تجد فيها النساء المطلقات في أزمة وصراع مع رجالهن السابقين، لا يغيب العامل الأنثوي الممثل في الأم عن تلك الأزمات، فالنساء يتعرضن للظلم بيد النساء بالفعل، وهكذا هي طبيعة المجتمع، معقد في تشابكه وقضاياه، معقد كما كان الإنسان دائماً، وليس مجرد قطبين أحاديين الجانب، قطب لا خير فيه وقطب لا شر فيه.
انتبه.. فيه سمٌّ قاتل
وفي النهاية مثل هذه الأطروحات، التي يتبناها مسلسل "فاتن أمل حربي"، لا تمثل مناقشة حقيقية لمثل تلك القضايا، بل تصبح مجرد دعاية لرأي أحادي سام لا يريد سوى التسويق لأوهامه وفقط. ولطالما كان الفن ضحية لكل الأفكار والأيديولوجيات التي تحاول استغلاله لدس نفسها داخل عقل المشاهد البسيط، والذي قد تجعله بساطة عقله يعتمد على أعمال سينمائية ودرامية في استقبال معلوماته التي تتحكم في منظوره تجاه العالم من حوله.
فبناءً على ما سبق، يتحتم على الأدبيات النسوية وغيرها عدم تجاهل الحقيقة التي لا يمكنهم تغييرها ولو في أعتى خيالاتهم جموحاً، وهي أن الظلم في المجتمع البشري تتم ممارسته بغض النظر عن جنس فاعله وجنس مفعوله، فالرجال يظلمون النساء بالفعل، وكذلك يظلمون الرجال أيضاً، والنساء يظلمن النساء من بني جنسهن، وكذلك تظلم النساء الرجال، فالحياة الإنسانية ليست بالبساطة والقطبية التي يتخيلها إبراهيم عيسى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.