بعد اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية، في 24 من شباط/فبراير 2022، والعالم يترقب نهاية الحرب التي شكَّلت أزمة اقتصادية واجتماعية للعالم، ليس فقط لطرفي النزاع، كما شكَّلت خطراً على الأمن الغذائي الدولي، حيث يعتبر البلدان من أكبر مصدِّري القمح في العالم، وشكلت العقوبات الاقتصادية خللاً في اقتصاد العالم اليوم، يترقب العالم اللقاءات التي تعقد بين الوفدين الروسي والأوكراني للتفاوض على كيفية حل الصراع وإحلال السلام بين البلدين.
مسار المفاوضات بين الفشل والتقدم
عُقد اللقاء الأول على الحدود البيلاروسية الأوكرانية غوميل في بيلاروسيا، المتاخمة لطرفي الصراع، في 28 من شباط/فبراير، ولكن لم يحرز أي تقدم، ولكن بعد أن استطاعت الدبلوماسية التركية إقناع طرفي الصراع بضرورة المفاوضات والعمل على تذليل العقبات عُقد أول لقاء بين وزيرَي خارجية البلدين، في المؤتمر الدبلوماسي في أنطاليا التركية، 10 مارس/آذار، الذي لم يحرز أي تقدم على الصعيد الميداني، ولكن على الصعيد الدبلوماسي أكد الطرفان على ضرورة مواصلة لقاءات التفاوض.
وبعد اتصال هاتفي بين الرئيسيين التركي رجب طيب أردوغان، والروسي فلاديمير بوتين، اتفق الطرفان على أن اللقاءات بين الوفدين ستُستكمل في مدينة إسطنبول التركية، التي كانت بدورها بداية الانفراجات، حيث صرَّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الجمعة 1 أبريل/نيسان 2022، بأنه تم إحراز بعض التقدم في محادثات السلام مع أوكرانيا، وأن موسكو تعد ردّها على المقترحات الأوكرانية.
كما صرَّح وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو عما وصفه بـ"التقدم الأهم" في المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا منذ اندلاع الحرب، في الجولة التي استضافتها إسطنبول، كما أعلن رئيس الوفد الأوكراني عن إحراز تقدم كافٍ في المحادثات التي أُجريت الثلاثاء مع الوفد الروسي في تركيا، لحل النزاع مع روسيا، بما يسمح بعقد لقاء بين رئيسي البلدين.
لقاء إسطنبول بداية انفراج الأزمة
خرج الوفدان من لقاء إسطنبول بتصريحات تنفس العالم الصعداء من بعدها، وقال الوزير التركي عقب 3 ساعات من المحادثات بين الوفدين الروسي والأوكراني "إنه التقدم الأهم منذ بدء المفاوضات"، كما أعلنت الرئاسة الروسية عقب مفاوضات وصفتها بالمفيدة أنها ستقلل من نشاطها العسكري بشكل جذري شمال أوكرانيا والمناطق القريبة من العاصمة الأوكرانية، حيث قال نائب وزير الدفاع الروسي ألكسندر فومين: "نظراً إلى أن المحادثات عن إعداد اتفاق بشأن وضع أوكرانيا المحايد، وخلوها من الأسلحة النووية انتقلت إلى مرحلة عملية… اتُّخذ قرار بتقليص النشاط العسكري في منطقتي كييف وتشيرنيهيف بشكل جذري"، كما صرح رئيس وفد التفاوض فلاديمير ميدينسكي أن هذا المقترح (المقدم من أوكرانيا) سيُنقل إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما أضاف أنه "بعد المحادثات المفيدة اليوم اتفقنا على اقتراح حل يتيح إمكانية عقد لقاء بين رئيسي الدولتين، تزامناً مع توقيع وزيري الخارجية المعاهدة بالأحرف الأولى".
كما شدد رئيس الوفد الأوكراني على أن المحادثات بين الوفد الأوكراني والروسي أحرزت تقدماً ملحوظاً، وقد تمهد الطريق للقاء بين قادة البلدين، وعلى الطرف الآخر كانت هناك اتصالات هاتفية بين الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا، بعد النتائج التي حققها اللقاء، وصرح البيت الأبيض بعزم الرئيس الأمريكي الاتصال ببعض القادة الأوروبيين، وشدد رئيس الوفد الروسي على أن بلاده لا تمانع انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ويعتبر هذا التصريح بمثابة تقدم كبير لحل الأزمة بين البلدين. علماً أن دخول أوكرانيا الاتحاد الأوروبي لا يشكل عائقاً أمام روسيا، لأن عضويتها لا تعني دخولها إلى أي اتفاقية دفاع مشترك، لأن معاهدة لشبونة تُلزم الدول الأعضاء في الاتحاد بتقديم المساعدة الممكنة في حال وقوع إحدى دول الاتحاد تحت أي اعتداء مسلح، وليس التدخل العسكري، عكس الدخول ضمن دول حلف الناتو، التي يسمح لأعضاء الحلف بالتدخل العسكري إذا تعرض أحد أعضاء الحلف لأي اعتداء مسلح. وهذا الانضمام ترفضه روسيا رفضاً قاطعاً.
كما أكد الرئيس التركي باتصال هاتفي مع الرئيس الروسي، أن اللقاء بين الوفدين في إسطنبول كان إيجابياً وبنّاء، وأحيا آمال السلام، وهنا يمكن القول إن إنهاء هذه الأزمة لن يعود بالسلام على البلدين فقط، إنما سيكون خطوة لعدم حدوث أزمة اقتصادية واجتماعية أكبر على العالم، هذا عدا أزمة العلاقات الدولية التي تهدد بإعادة انقسام العالم إلى معسكرين شرقي وغربي، والتي بدأنا نرى بوادرها مع الحرب الروسية.
الدبلوماسية التركية
عملت تركيا منذ بداية الأزمة الأوكرانية على عدم اتخاذ موقف طرف من طرفي لنزاع، وعمل الرئيس التركي بشكل دائم على التواصل مع الرئيسين الأوكراني والروسي لتهدئة الوضع، ما نتج عنه لقاء إسطنبول الذي يعتبر حجر الأساس لحل الأزمة، وبناء السلام بين البلدين، رغم التوترات الأخيرة بسبب الهجوم الأوكراني داخل الأراضي الروسية عبر هجوم جوي، والذي يؤدي بدوره إلى إعادة توتر الأوضاع بين البلدين، وخاصة بعد تصريح سفير أوكرانيا لدى اليابان سيرغي كورسونسكي، بأن بلاده ستتمكن قريباً من حماية أجوائها ومدنها بشكل أفضل من الهجمات الروسية، لأنها تتوقع عتاداً عسكرياً "فائق الحداثة" من الولايات المتحدة وبريطانيا.
وهنا تواجه تركيا تحدياً جديداً، وهو هل ستسمح الولايات المتحدة بأي حل أوكراني لا يمر عبرها؟ علماً أن الولايات المتحدة تعرف جيداً أن تسليح أوكرانيا في هذه المرحلة من المفاوضات من الممكن أن يؤثر على سير عمل المفاوضات، وخاصة بعد تصريح الكرملين بأن الضربة الجوية الأوكرانية التي استهدفت مستودع وقود في مدينة بيلجورود الروسية، لا توفر ظروفاً مناسبة لمواصلة المحادثات مع كييف. فهل ستستطيع أنقرة إنهاء هذه المفاوضات بنجاح؟
فضلاً عن تلك المكاسب التي خرجت بها تركيا من إدارتها لعملية "التهدئة" بين البلدين، فإن تركيا من الدول التي من الممكن أن تكون دولة ضامنة للاتفاق بين البلدين، هذه التطورات أثبتت مرة جديدة أن تركيا اليوم تلعب دوراً إقليمياً ودولياً لحل الأزمات الإقليمية والدولية، كالحرب الأرمينية الأذربيجانية والملف السوري والليبي. يوماً بعد يوم تُثبت أنقرة أن دورها الإقليمي هو دور لا يمكن الاستغناء عنه، والذي سيعطيها فيما بعد أوراق تفاوض في العديد من الملفات مع الغرب، كما سيسمح لها بأن تكون وسيطاً بين روسيا والغرب في أي أزمة في المستقبل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.