بعد عامين ونصف العام من المكابرة والتهرّب والمواربة، أعلنت الدولة اللبنانية على لسان نائب رئيس الحكومة، سعادة الشامي، وبـ"الفم الملآن" إفلاس الدولة والمصرف المركزي دون التطرق إلى وضع المصارف، ثم نفت الدولة أن يكون هذا إعلان إفلاس، وإنما مجرد رأي شخصي لصاحبه، وإن كان يشغل منصباً حساساً في الدولة.
حديث -رغم نفيه- تأخر، وتسبّب تأخره بتراكم خسائر سيحملها المودع اللبناني والمواطن العادي، الذي سيكتشف بعد حين أنّ أصول الدولة التي استند إليها كمقومات وطنية ستباع أو توظف لدى كبار المودعين، أي السياسيين ومعارفهم، في عملية إعادة تدوير للسلطة السياسية نفسها، لكن بأدوات مختلفة، ما يبرر عدم التطرق إلى إفلاس المصارف في تصريح الوزير الشامي.
البداية في يناير 2019
بدأ الفصل الأول من فصول إفلاس الدولة اللبنانية، في كانون الثاني/يناير العام 2019، أي قبل أشهر من اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر. حينها كشف وزير المالية آنذاك، علي حسن خليل، في حديث لصحيفة "الأخبار" المحلية، أنّ وزارته تعدّ خطة للتصحيح المالي تتضمن "إعادة هيكلة للدين العام". وشرح خليل أنّ "خطة التصحيح المالي الطوعي" تهدف إلى تلافي "التطورات الدراماتيكية" التي ستقع، إذا ما تواصل النزف المالي بالوتيرة نفسها خلال السنوات المقبلة، معتبراً أنّه يتعيّن توزيع كلفة التصحيح بعدالة بين الأطراف المعنية.
وفي بلد مثل لبنان، اقتصاده ريعي ومرتبط باستقرار العملة الوطنية، أي الليرة اللبنانية، أثارت تصريحات خليل بلبلة واسعة، فلم يعهد اللبنانيون مثيلاً لها منذ ربط الليرة بالدولار في العام 1997. وعليه، جرت موجة بيع مكثفة لأدوات الدين اللبنانية المقومة بالدولار، أي اليوروبوندز.
وفي مؤشر إلى خطورة الوضع الاقتصادي والنقدي والمالي في لبنان، اكتسبت تصريحات خليل زخماً إضافياً بعدما أتبعها بحديث لـ"بلومبرغ". وفي مقابلته أعلن خليل أنّ وزارة المالية تعدّ خطّة للإصلاحات في مالية الدولة وموازنتها، تتضمن مجموعة إجراءات لإعادة التوازن المالي، وتنفيذ توجهات مؤتمر "سيدر". وتحدّث خليل مجدداً عن إعادة هيكلة الدين العام، قبل أن يوضح أنّها عملية إعادة جدولة.
الدولة تنكر وتواصل المكابرة
كانت خطورة تصريحات وزير المالية أكبر من أن تُلطّف، فبعد ثلاثة أيام بدأت المكابرات والمزايدات حتى عُقد اجتماع في القصر الجمهوري في بعبدا، في 13 كانون الثاني/يناير. وقد حضر الاجتماع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ورئيس الحكومة سعد الحريري، وخليل، ووزير الاقتصاد والتجارة رائد خوري، ورئيس لجنة المال والموازنة في مجلس النواب النائب إبراهيم كنعان، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ورئيس جمعية المصارف جوزيف طربيه. اللقاء الذي خُصص للبحث في الأوضاع المالية والاقتصادية، خُتم ببيان، ظلّ حبراً على ورق. ومن بين بنوده اعتبار "موضوع إعادة هيكلة الدين العام غير مطروح على الإطلاق"، والتأكيد على أنّ المطروح ينطوي على تنفيذ الإصلاحات التي اقترنت بها موازنة 2018، وما التزمت به الدولة بموجب "سيدر".
بوادر الأزمة
أُدرج تصريح خليل حول الوضع الاقتصادي في البلاد في سياق التطوّر الطبيعي للوضع الاقتصادي المتدهور منذ قبل العام 2019، فما يشهده لبنان اليوم يجسد ما توقعه الخبراء الاقتصاديون قبل أعوام. وبحسب تقديرات وزارة العمل اللبنانية بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، كانت شهدت معدلات البطالة ارتفاعاً من 11.3% في العام 2018 إلى 18.5% في العام 2019، علماً أنّها قفزت إلى 36.9% في العام 2020. وفي العام 2019، أصدرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) تقديراتها حول ارتفاع معدّلات الفقر، مشيرةً إلى أنّ نسبة الذين يعانون منه في لبنان تساوي 28%. وفي أيلول/سبتمبر العام 2020، كشفت الإسكوا أن نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد تصل إلى 82% من السكان في لبنان، إذا تم أخذ أبعاد أوسع في الاعتبار، مثل الصحة والتعليم والخدمات العامة".
بدوره، كان صندوق النقد الدولي قد حثّ لبنان، في حزيران/يونيو العام 2018، أي بعد شهر على انتخابات أيار/مايو النيابية على ضرورة "إجراء تصحيح مالي فوري وكبير" بهدف تعزيز قدرة البلاد على الاستمرار في تحمّل الديون. وفي كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، عدّلت كلّ من وكالتي "فيتش" و"موديز" المعنيتيْن بالتصنيفات الائتمانية، نظرتهما المستقبلية من مستقرة إلى سلبية.
العقوبات التي قصمت ظهر البعير
أثقلت العقوبات الأمريكية التي استهدفت دائرة "حزب الله" منذ العام 2015 كاهل القطاع المصرفي اللبناني، إلى أن بلغت أوجها في أواخر آب/أغسطس العام 2019، حين اتخذت واشنطن خطوة شديدة القسوة على القطاع المصرفي، عبر إدراج مصرف "جمّال ترست بنك" على لائحة العقوبات، بحجة إخفائه نشاطات مالية للحزب، بحسب بيان الخزانة الأمريكية.
كانت المخاطر الاقتصادية تتراكم إلى أن انفجر الوضع في 17 تشرين الأول/أكتوبر، عندما أعلنت الحكومة نيتها فرض ضرائب على الاتصالات عبر تطبيق "واتساب" وعلى الوقود. نزل الناس إلى الشارع احتجاجاً على إجراءات تُمعن في حرمانهم من حقوقهم بدلاً من العمل على حل أصل المشكلة. من جهتها، وجدت المصارف فرصة، فتحججت بالتظاهرات وبأعمال الشغب التي طالت واجهاتها (بدأت الصرافات الآلية تقيّد وصول اللبنانيين إلى الدولار قبل 17 تشرين الأول/أكتوبر)، وأقفلت أبوابها أمام المواطنين. في المقابل، كان يُسمح للسياسيين والنافذين بتحويل أموالهم طوال تلك الفترة.
الدولار ليس بـ1500 ليرة
إقفال المصارف أبوابها وامتناعها عن الدفع بالدولار أدى إلى بروز سوق موازية (سوداء)، فعرف اللبنانيون سعراً آخر للدولار بعدما كان مثبتاً عند 1500 ليرة للدولار الواحد لأكثر من عقديْن. وعلى الرغم من التصريحات السياسية المطمئنة، وولادة حكومة جديدة برئاسة حسان دياب، كان سعر الدولار يرتفع في السوق الموازية، ومعه تنخفض قدرة اللبنانيين الشرائية. ومن جهتها، فاقمت أزمة فيروس كورونا التي شلّت القطاعات الاقتصادية المختلفة، محلياً وعالمياً، الأزمة.
دعم المركزي واستنزاف الدولار
في 7 آذار/مارس العام 2020، أعلن دياب، قرار "تعليق لبنان دفع سندات اليوروبوندز"، لم يستخدم رئيس الحكومة كلمة تعثّر، مكتفياً بالقول إنّ لبنان ليس سوى واحد من الدول التي "تخلّفت" عن سداد ديونها. بعد هذا الإعلان الذي مثّل علامة فارقة في سجل لبنان كدولة دائنة، تعاقدت الدولة مع شركة "لازار". إلّا أنّ الأزمة تفاقمت مجدداً مع رفض مجلس النواب خطة التعافي التي أعدّتها، حيث تضاربت أرقام الخسائر مع تلك التي قدّرتها المصارف. كذلك لم يقرّ البرلمان قانون "الكابيتال كونترول" لضبط حركة الدولار في البلاد. وبالإضافة إلى ذلك تمسك دياب بسياسة الدعم التي استنزفت احتياط العملات الأجنبية.
وبعدما امتنعت عن الدفع بالدولار، قيّدت المصارف سقوف السحوبات بالليرة، في مسعى منها إلى ضبط سعره المتفلّت في السوق الموازية. ومع جنون الدولار الذي بلغ سعره أرقاماً قياسية بلغت 33 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد، بلغت نسبة التضخم 100% في بلد يستورد غذاءه ووقوده وأدويته من الخارج. ونتيجة لذلك شهد لبنان ظاهرة الطوابير على المحطات، وانقطاع الأدوية من الصيدليات، والخبز من الأفران، وسلكت الدولة اللبنانية بمؤسساتها المدنية مسار التحلل.
عودة إلى تصريح الشامي
كان التقاتل الداخلي على تقدير حجم الخسائر والجهة التي عليها تحمّلها سيد الموقف منذ اندلاع انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر، فلم يُتّخذ أي قرار أو قانون جدي يضبط الأوضاع كما لم تتضح معالم خطة الإصلاح المالي والاقتصادي رغم الاجتماعات الكثيرة للحكومتيْن السابقة والحالية مع ممثلي البنك الدولي من جهة وممثلي صندوق النقد الدولي في الجهة الثانية. كان المودع اللبناني وحده يتحمّل خسائر سوء إدارة المصارف لأمواله.
ولذلك، ليس "تلويح" الشامي اليوم عن الإفلاس سوى تمهيد لمرحلة جديدة، وإن كان حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، قد نفى "ما يتم تداوله حول إفلاس المصرف المركزي"، مؤكداً أنّه ما زال "يمارس دوره الموكل إليه بموجب المادة 70 من قانون النقد والتسليف، وسوف يستمر بذلك"، ولو أنّ الوزير الشامي تحدّث عن اقتطاع وتشويه لتصريحه، غير أنّ ما كتب قد كتب وما قيل قد قيل.
مرحلة جديدة
إذن، يمكن اعتبار استخدام كلمة إفلاس علناً للمرة الأولى تمهيداً لسلسلة قرارات جديدة، وأوّلها إعادة هيكلة المصارف وإعادة هيكلة الدين وتحميل خسائر مصرف لبنان للمودعين. وتكمن أهمية الإعلان اليوم في قدرته على فتح الباب على التدابير القانونية للإجراءات المذكورة، وذلك وفقاً لخطة يجري التوافق عليها حكماً مع صندوق النقد الدولي، وبحسب الخبراء الاقتصاديين فإنّ الإفلاس كان معلوماً، لكن الخطر يتجلى اليوم في أن يكون هذا الإعلان مقدّمة لبيع أصول الدولة.
لا يعيش لبنان اليوم إفلاساً مالياً فحسب، بل سياسياً أيضاً، فقد فشلت النخب الحاكمة والمعارضة في صياغة خطاب مقنع ووضع خارطة للخروج من أزمة صنعوها بملء إرادتهم. وهم رغم ذلك يندفعون صوب انتخابات نيابية أرادوها للتجديد لشرعيتهم، لكن هذه المرة من دون الأدوات السابقة، ومن دون قدرة على تحريك الناس. وأخيراً فوق الإفلاسات المالية والسياسية تعيش البلاد إفلاساً أخلاقياً، حيث تعتمد النخبة الحاكمة أساليب ملتوية وطرقاً تلتف بها على التشريعات والقوانين، وتوظف القضاء للحماية بدل المحاسبة كلما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.