يبدو الواقع اللبناني في حال من انعدام التوازن، تتجاذبه ملفات ضاغطة ومعقّدة، وسط غيوم تحجب الرؤية لما سترسو عليه الأمور. فالملف الانتخابي ملبّد بالتساؤلات حول مصير استحقاق 15 مايو/أيار، فيما الملفات المرتبطة بالأزمة في ذروة الارتباك، فها هي السلطة تحاول البحث مجدداً عن صيغة جديدة للكابيتال كونترول، بعد المسرحية العبثية التي جرت فيها محاولة فاشلة لتمريره مطلع الأسبوع الجاري، وبدا فيها "الكابيتال كونترول" مادة انتخابية وشعبوية ممجوجة.
فيما المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، يبدو أنّها ما زالت عالقة في المربّع الأول، وها هو وفد الصندوق قد حضر في زيارة جديدة لامتحان مصداقية الحكومة اللبنانية وجدّيتها في الاستجابة إلى المطالب السريعة لإنقاذ الوضع والتي تضع لبنان على سكة الخروج من الأزمة. أما على أرض الواقع، فيبدو أنّ الانهيار المتسارع بات يطرق باب الانفجار الاجتماعي، حيث تتبدّى أسوأ صوره في كل مقومات حياة اللبنانيين وأساسياتهم، وحتى رغيف الخبز يكاد يصبح سلعة نادرة.
فيما يخرج رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عن صمته المطبق حيال ما يعتبره مواقف شعبوية في الملف القضائي-المالي وعلى رأسه موضوع محاكمة حاكم مصرف لبنان، وصولاً إلى الحفلة الجارية في ملف الكابيتال كونترول الذي رفضت اللجان النيابية البحث فيه وطلبت تقديمه بمثابة مشروع قانون من الحكومة.
هذا الموقف استفز ميقاتي وفتح الباب أمام التلويح بمصير الحكومة في جلسة تحولت لمساءلة السلطة التنفيذية على أبواب الانتخابات، وعلى الرغم من قوله إنه ليس في وارد الاستقالة كي لا تطير الانتخابات، وهذا الموقف جاء من خارج سياق كل شيء، الأمر الذي فتح الباب على صدمات لحليفه الرئيس نبيه بري، وهناك من يقول إن ميقاتي يريد رمي مسؤولية ما يجري على الآخرين، لا سيما الخلاف على مشروع الكابيتال كونترول، الذي يربطه بجملة عناوين: التفاوض مع صندوق النقد الدولي، إنجاز الإصلاحات، الخطة الإصلاحية، وتلبية الشروط الدولية لنيل ثقة المجتمعين العربي والدولي.
بناءً على النتائج
وميقاتي الذي يتحدث لكل من يقصد دارته أنه بات في حكم الرئيس المحاصر من الجميع، وقبوله البقاء في رئاسة الحكومة مرتبط بإجراء الانتخابات في موعدها المحدد، الذي يرتبط أيضاً بنتائجها، وهناك من يربط شكل التحالفات واللوائح بمصير الانتخابات، وهي باقية في حالة واحدة في حال أظهرت النتائج الأولية المتوقعة فوزاً للفريق الحاكم أي حزب الله والتيار العوني وحلفاء التوازن القائم باستمرار الحكومة.
أما في حال لم تكن تلك النتائج المتوقعة ملائمة لهذا الفريق وتوازناته، فإن الاشتباك السياسي والمالي والقضائي سيكمل طريقه مع توالي أزمات مرتبطة بأسعار المحروقات وغلائها وتوقف المحطات عن التعبئة، الأمر الذي سيحيي فكرة تأجيل الانتخابات بحجة عدم وجود ظروف مالية وأمنية، وهناك سيناريو يفضله جبران باسيل وهو باستكماله استخدام القضاء لتصفية الحسابات واشتداد الأزمة القضائية مع المصارف على نحو قد يؤدي إلى زيادة التأزم، وتوجه أحد الفرقاء إلى الاستقالة من الحكومة وإسقاطها، ما يعني أن تصبح الانتخابات بحكم المؤجلة.
ومؤشرات الانفجار السياسي والاجتماعي باتت متوافرة، ولكن عمليات التطويق والترقيع السياسي مستمرة لمنع وقوعه. ورفع ميقاتي سقف موقفه السياسي، وصولاً إلى طرح الثقة بحكومته، يرتبط بفرض أمر واقع جديد: ضرورة إبرام تسوية سياسية جديدة تطال الملفات القضائية، المصرفية، المالية، والسياسية؛ كي تتمكن الحكومة من الاستمرار حتى الانتخابات النيابية. وفي حال عدم توفر ظروف التسوية، يقع الانفجار وتتأجل الانتخابات، فيما بوادر هذه التسوية باتت حاضرة عبر تأجيل محاكمة رياض سلامة إلى ما بعد الانتخابات والإفراج عن شقيقه رجا بكفالة مالية.
الملف اللبناني على الطاولة
بالمقابل هناك جهات داخلية وخارجية باتت تعتقد أن العراقيل لم تعد داخلية فقط، بل هناك غياب للتجاوب الخارجي والدولي تجاه أي مساعدة للحكومة قبيل نضج الظروف المتعلقة بالاتفاق النووي والحوار السعودي الإيراني، وبالتالي لن تتمكن هذه الحكومة من تحقيق أي إنجاز في عهدها.
والأكيد أن ميقاتي عاد من قطر التي زارها الأسبوع الماضي مع الوزيرين ناصر ياسين وفراس الأبيض، دون نتائج تذكر، فيما لا تطورات مهمة في ملف العودة الخليجية لبيروت على الرغم من أن المحيطين بميقاتي الحريصين على تأكيد أهمية ما تضمنته رحلة ميقاتي القطرية من بوابة عودة استقبال العواصم الخليجية لرئيس حكومة لبنانية وإجراء لقاءات مع شخصيات عربية ودولية رفيعة وما سمعه ميقاتي من مولر حول ملف الاتفاق النووي ومندرجاته الإقليمية.
والأكيد الذي سمعه ميقاتي في قطر هو بتشكيل خلية خليجية تواكب التطورات اللبنانية وتناقشها بالعمق المطلوب، وهذه الخلية التي تواكبها باريس وترعاها واشنطن باتت تضم ثلاثياً رئيسياً وهو السعودية وقطر والكويت وقد تتوسع بانضمام الإمارات ومصر خلال الأيام القادمة.
والملف اللبناني لم يكن غائباً عن قمم واجتماعات المنطقة من شرم الشيخ إلى العقبة وليس انتهاء بالنقب، ما يعني أن لبنان عاد لطاولة بحث التفاوض الإقليمي. وعليه فإن الحوار الذي أعادت قطر تحريك عجلاته بالتنسيق مع العراق بين الرياض وطهران ينطلق من حل حرب اليمن والاستنزاف الحاصل حوله، والتوصل إلى تسوية وضمانات بوقف التصعيد الحوثي منه ضد المملكة، بالمقابل فإن طهران تريد من الرياض أن تساعدها في إعادة التوازن لسوريا ولبنان. وفي حال استمرت هذه المفاوضات يوضع لبنان على سكة التفاوض، سواء قبل الانتخابات أو بعدها.
"جهنم" جديدة؟
وعليه فإن الانتخابات المهددة بحصولها في موعدها المحدد باتت رهينة المفاوضات الصغرى والكبرى، خاصة أن هناك من يشير إلى أن إجراءها بواقع لبنان الحالي يعني فوز حزب الله وحلفائه بغالبية كبرى للانتخابات، وهذه المرة بكتلة سورية نتيجة دخول السوريين على خط الانتخابات لانتزاع مقاعد لحلفاء دمشق بشكل مباشر للحديث مستقبلاً عن كتلة سورية يجري التفاوض بها إقليمياً لتثبيت دور للنظام في المعادلات القائمة.
والقولُ إن السوريين يستطيعون عبر كتلتهم التمايز عن حزب الله في الملفات الأساسية لبنانياً، هو ما تتحسس منه قوى عديدة وتحديداً ما يجري في صالونات سياسية مناوئة للحزب والنظام، وهذه النقاشات يقودها الرئيس فؤاد السنيورة والنائب السابق وليد جنبلاط اللذان يحرصان على استنهاض السنة والدروز في هذه المعادلة، خوفاً من مصير أسود قد يلف البلاد صباح 16 مايو/أيار وتصادر من خلاله آخر قلاع التوازن السياسي لصالح حزب الله وحزب البعث.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.