باتت حالة التناقض والتخبط التي يعيشها قيس سعيد منذ انقلاب 25 يوليو/تموز 2021، أكثر وضوحاً بعد إعلانه حل البرلمان، فبعد ثلاثة أيام من تصريحه بأن عدم اتخاذه قرار حل البرلمان يعود إلى احترامه للدستور الذي يمنع ذلك، أعلن الأربعاء قرار حل البرلمان "حفاظاً على الدولة ومؤسساتها" متهماً أعضاء البرلمان بالانقلاب والتآمر على أمن الدولة، ومدعياً أنه استند في ذلك إلى الفصل 72 من الدستور الذي ينص على "أن رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدتها والضامن لاستقلالها واستمراريتها والساهر على احترام دستورها".
قراءات مختلفة حول تأثيرات هذا القرار وتبعاته بين من يعتبره انتصاراً لقوى الديمقراطية التي كشفت اللثام عن الانقلاب وجعلته مكشوفاً في مواجهة رافضيه داخلياً وخارجياً، وكذلك بين من اعتبرها خطوة نحو تقليص فترة الإجراءات الاستثنائية والذهاب بالبلاد نحو انتخابات برلمانية سابقة لأوانها في غضون ثلاثة أشهر حسب نص الدستور، وبين مَن يعتبرها انتصاراً لقيس سعيد وخطوة جديدة نحو تمكين وتحقيق مشروعه من خلال مزيد التضييق على المعارضة والمواصلة في احتكار مسألة تأويل الدستور، وأنه لن يقبل بإنجاز انتخابات في غضون ثلاثة أشهر، وهو ما أكده خلال اجتماعه أمس مع رئيسة الحكومة نجلاء بودن ووزير تكنولوجيات الاتصال نزار بن ناجي، حيث قال: "لا أعلم من أين أتوا بفتوى أنّ الانتخابات ستكون وفق الفصل 89.. ومن نصَّب نفسه مفتياً للديار التونسية في القانون الدستوري"، متابعاً: "نحن نتحدث عن الدولة واستمراريتها واستقلالها لا عن تدبير موعد الانتخابات".
اختلفت القراءات كما أسلفنا، ولكن اجتمعت وتقاطعت حول عدم دستورية قرار حل البرلمان حيث إن الدستور التونسي لا يتيح لرئيس الجمهورية إمكانية حل البرلمان إلا في حالة وحيدة وهي التي يقرها الفصل 89 من الدستور والذي جاء فيه أنه إذا مرت أربعة أشهر على التكليف الأول، ولم يمنح أعضاء مجلس نواب الشعب الثقة للحكومة، لرئيس الجمهورية الحق في حلّ مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة في أجَل أدناه خمسة وأربعون يوماً وأقصاه تسعون يوماً.
الدستور أكلَه الانقلاب
ليست المرة الأولى التي يناقض فيها سعيّد نفسه ولا الأولى التي يخالف فيها أستاذ القانون الدستوري دستور البلاد الذي أقسم على احترامه، فقبلها جمَّد البرلمان، مدعياً أنه يطبق الفصل الـ80 من الدستور في حال أن هذا الفصل يوجب بقاء البرلمان في حالة انعقاد دائم، وجمع كل السلطات بين يديه، والحال أن مبدأ التفريق بين السلطات من أهم المبادئ التي تأسس عليها دستور البلاد.
انتفض عدد من أساتذة القانون على قرار سعيّد وأصدروا عريضة ذكّروه من خلالها بأن الدستور عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكومين وبأن دستور الجمهورية التونسية لعام 2014 لم يصدر بشكل اعتباطي، بل حظي بإجماع نواب المجلس الوطني التأسيسي، وبرعاية الأمم المتحدة. وأشادت به لجنة البندقية، ولقي من العالم كل ترحيب.
أيضاً صرّح أستاذ القانون الدستوري وأحد أنصار قيس سعيد وأهم داعمي الانقلاب الأستاذ الصغير الزكراوي بأنه: "لا يمكن لرئيس الجمهورية قيس سعيد أن يؤسس قرار حل البرلمان على أحكام الفصل 72 من الدستور".
من النقاط الأخرى التي يعتمدها المختصون في القانون للتدليل على عدم قانونية خيار حل البرلمان هو ربطها بمراسيم رئاسية أعلنها سعيد سابقاً من المرسوم عدد 117 الصادر في 22 سبتمبر/أيلول الماضي، والذي علّق سعيد بموجبه العمل بالدستور باستثناء التوطئة والبابين الأول (المبادئ العامة) والثاني منه (الحقوق والحريات)، ليعود اليوم ويستدعي فصلاً من الباب الرابع المتعلق بالسلطة التنفيذية ويبرر به حل البرلمان!
الواضح من خلال هذه المواقف القانونية أن أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد قد ترك المعايير العلمية جانباً وتنكر للدستور وأحكامه من أجل تنفيذ مشروعه، وهو ما تسبب في تزايد المعارضة الداخلية والخارجية له.
خطوة جديدة تعزل الانقلاب
أحزاب كثيرة أهمها حركة النهضة والتيار الديمقراطي والحزب الجمهوري ومواطنون ضد الانقلاب، عبرت عن رفضها لهذا القرار واعتبرته خطوة أخرى نحو تكريس الدكتاتورية والتفرد بالسلطة وتأويلاً شاذاً للدستور.
أيضاً بدورها عبرت الأمم المتحدة عبر عن قلقها إزاء قرار حل البرلمان وطالبت جميع الأطراف بالإحجام عن أي أفعال تؤدي لمزيد من التوتر السياسي وعبرت واشنطن عن قلقها البالغ إزاء هذا القرار "الأحادي الجانب".
فقد مثلت خطوة حل البرلمان عقدة جديدة حول رقبة الانقلاب تساهم في مزيد من عزله داخلياً وخارجياً حيث صدرت تقارير تفيد بأن فريق صندوق النقد الدولي غادر تونس دون إشارة لأي دعم مالي أو اتفاق قريب حول التمويلات التي تطلبها الحكومة التونسية.
تزيد هذه الردود الانفعالية من قبل سعيد في عزلة انقلابه داخلياً وخارجياً وتكشف للجميع أن كل المبررات التي حاول من خلالها سابقاً دفع تهمة "الانقلاب" على إجراءاته الاستثنائية مبررات واهية وأن أستاذ القانون الدستوري لا يرى في الدستور سوى أداة يطوعها في خدمة أجندته، لا غير، وذلك على حساب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تفاقمت أزمتها في الأشهر الأخيرة.
الشعب يدفع الثمن
إثر الإعلان عن انقلاب 25 يوليو/تموز ظن جزء مهم من الشعب، أن ما أتاه سعيد خطوة في اتجاه إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وعبر العديد منهم عن ابتهاجه بما حصل في الشوارع.
مرت على الانقلاب ثمانية أشهر ولم يكسب الشعب التونسي منه سوى مزيد من البطالة وارتفاع الأسعار المقترنة مع تواصل الأزمات السياسية.
استنجد سعيد مرة أخرى وهو يعلن حل البرلمان بالشعب مطالباً إياه بالخروج والتعبير عن إرادته، إلا أن ذلك لم يحصل.
يبدو أن الشعب التونسي قد أصيب بخيبة أمل جديدة من سلطة الانقلاب، ويبدو أن المخاوف من دفع ثمن مراهنة البعض على خطوات غير محسوبة ودون أفق واضحة تتزايد.
فلم تعرف البلاد تأخراً في صرف رواتب الموظفين الحكوميين كما حصل في الأشهر الأخيرة، كما أن العديد من الشركات التي عانت كثيراً بسبب أزمة كورونا زاد الانقلاب من أزمتها، وتشهد البلاد أيضاً ندرة في توفر بعض المواد وارتفاع في أسعار البعض الآخر.
تساهم هذه المؤشرات وغيرها، خاصة ونحن نستقبل شهر رمضان، في ارتفاع نسبة خوف التونسيين من تعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتجعلهم يبحثون عن بصيص أمل يغلق قوس الانقلاب بأقل كلفة.
الحوار هو الأمل
في الوقت الذي يحتدم فيه الصراع بين سعيد ومعارضيه تتصاعد الأصوات المطالبة بضرورة الحوار وتجنيب البلاد مخاطر مؤكدة تهدد السلم الاجتماعي فيها.
تحدث سعيد في الأسابيع الماضية عن استعداده للحوار في أكثر من مناسبة إلا أنه لم يوضح أرضية هذا الحوار ولا أطرافه إلى الآن.
في المقابل تطالب المعارضة بحوار شامل شكلاً ومضموناً لغلق قوس الانقلاب وتطالب الأطراف الداعمة للرئيس بحوار "عمودي" يجمع المنظمات والأحزاب المناصرة لمسار 25 يوليو/تموز فقط.
أما الاتحاد العام التونسي للشغل وبعض المنظمات الأخرى فتحاول مسك العصا من الوسط من خلال الدعوة إلى حوار ينطلق من عدم توصيف ما حصل في تونس بالانقلاب يناقش بدائل اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة ويفضي إلى مخرجات تنهي حالة الاستثناء.
بدورها طالبت أطراف خارجية ومؤسسات مانحة، التونسيين، بالحوار، واشترط صندوق النقد الدولي على الحكومة التشاور مع مختلف الأطراف الاجتماعية والسياسية حول وثيقة الإصلاح الاقتصادية قبل تقديمها للصندوق والحصول على تمويلات جديدة.
ورغم اختلاف المنطلقات والخلفيات، يبقى الحوار بين مختلف الأطراف المتنازعة في تونس، هو الأمل والحل بعيداً عن التصعيد وسياسة الهروب إلى الأمام وبعيداً عن كل المغامرات الأخرى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.