لا جدال في أن الأسس والقواعد في النظام الدولي ينبغي أن يلتزم ويتعامل بها مجموع الدول الفاعلة وغير الفاعلة، والمنظمات والشركات العابرة للقارات، سواء كانت الأسس والقواعد هي المواثيق المتفق عليها، أو أعراف وتقاليد دولية أو قوانين دولية، غير أن الواقع غالباً إن لم يكن دائماً، لا يعطي نموذجاً مثالياً وفاضلاً لما يفترض أن تكون عليه العلاقات بين أفراد المجتمع الدولي، بل إن الواقع للأسف يعكس صورة مختلفة تماماً لمجتمع دولي تكثر فيه النزاعات والحروب، والمؤامرات ولغات التهديد.
النزاع أو الصراع باعتباره حالة عارضة أو طارئة للأفراد أو الدول، يحاول فيها كلا الطرفين المتصارعين اكتساب السبق على الآخر، أو باعتباره حالة تنازع بين الطرفين، وهذا التنازع ناشئ من الاختلاف القائم بينهما في الدوافع والتصورات، أو التطلعات أو الأهداف أو غير ذلك، هو بهذه الاعتبارات يمثل جزءاً رئيسياً ومحور أساس في فهم العلاقات الدولية وفي التنبؤ بتطوراتها ومآلاتها.
ورغم أنه ليس للصراع صفات الثبات والدوام، فإن درجات الصراع تتفاوت بين الأطراف بحسب حيثيات الهدف المتصارَع عليه ونوع الصراع، سواء كان سياسياً، أو اقتصادياً أو حضارياَ (الصراع في فلسطين بين اليهود والمسلمين، يمكن أن يصنف من أطول أنواع الصراع في الوقت الراهن كمثال، بل إنه يخرج من اعتباره صراعاً دينياً وحضارياً إلى اعتباره قضية دينية إسلامية يهتم بها كل مسلم).
إضافة إلى أن الصراع أو النزاع يعرف بأنه: حالة تناقض بين أهداف الدول، أو بين قيم الفاعلين في النظام الاجتماعي، ويتم ذلك ضمن إطار مفاهيم ومعتقدات كل طرف. ويعرفه آخرون بأنه يستخدم في بعض الأحيان للإشارة إلى التضارب أو التناقض في المبادئ أو المفاهيم، أو العواطف أو الأهداف، أو المطالبة بالكيانات أو الهوية.
"كينيث والتز" يزعم أن الصراعات والحروب إنما تنتج من مشاعر الأنانية والغباء الإنساني، وأيضاً عن سوء توجيه النزعات العدوانية، وإن ما عدا ذلك من العوامل التي تسبب الصراع يعد ثانوياً ولا ينبغي أن ينظر إليه إلا في ضوء هذه الحقيقة السيكولوجية الأساسية.
وهو أيضاً يؤيد الاتجاه الذي يربط بين جنوح الدول إلى العدوان وبين الطبيعة البشرية. أما "فلوجل" فإنه يفترض في نظريته (الإخفاق أو الإحباط) أن الدول التي تتحقق فيها الحاجات الأساسية لشعوبها بصورة معقولة، تكون أقل استعداداً من الناحية السيكولوجية للصراع والحرب، من تلك الدول التي يسيطر على شعوبها الشعور بعدم الرضا أو الضيق.
أيضاً البعض يفسر ظاهرة الصراع والنزاع بين الدول، بإرجاع أصول الصراع إلى النواحي الأيديولوجية، بمعنى أن التناقضات أو الاختلافات الأيديولوجية هي الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه في فهم أي صراع، ويستندون على وجه التحديد على الأيديولوجية الماركسية، التي من وجهة نظرهم تعتبر أن الصراع أصوله طبقية، وإذا أمكن تحديد العلاقات الطبقية بين مختلف القوى فهو الأداة الوحيدة لتفسير الصراع.
الواقعيون يعتبرون أن مصالح الدولة القومية هي الدافع الرئيسي لنشوب الصراع، وفي محاولة الدولة الحفاظ على مصالحها القوية؛ ومن أجل بقائها والمحافظة على مصالحها وذاتها، فإنها تنزع إلى العدوانية وإظهار القوة العسكرية، بل وضروب القوة الأخرى السياسية والاقتصادية والدعائية وغيرها، وقد عبر "كينيث تومبسون" عن هذه المعاني بقوله: "إن الصراع على القوة باعتباره الركيزة التي تستند عليها المصلحة القومية، هي حقيقة ثابتة تتجاوز المعتقدات الفردية والمذهبيات والأحزاب السياسية، وأشخاص الحكام في الدول الرأسمالية والشيوعية على السواء".
ومن مدخل طبيعة وبنية النظام الدولي، يعتنق البعض تأويلاً آخر يقوم على ما مفاده، أن الفوضى العالمية واحتفاظ كل وحدة سياسية بسيادتها هو الأصل الذي ينبغي أن يكون لفهم طبيعة الصراع، وإنه لأجل حلحلة جميع أنواع الصراع فإن الأوجب هو نزع السيادة من أي دولة، وتكوين حكومة عالمية واحدة تذوب فيها كل تلك السيادات، وفي دفاعه عن هذا المفهوم يقول "ويكوم": "إن الصراعات والحروب لن تنتهي طالما بقي النظام الدولي القائم على تعدد الدول، وإن السلام لن يتحقق ما بقيت هذه التعددية، وشكك في مقدرة الأمم المتحدة على الاضطلاع بهذه المهمة، كونها الضامن والحامي لتعدد السيادات الوطنية في المجتمع الدولي".
أما علماء النفس والاجتماع، فإن بعضهم دعوا إلى تصميم مداخل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن واليونسكو، بحيث يضطر ممثلو الدول إلى المرور عبر ملعب حضانة أطفال في طريقهم لقاعات الاجتماع، ويعتقد آخرون بإمكانية دعم قضية السلام من خلال استبدال الرجال بالنساء في حكم الشعوب!
لا جدال أن الأزمة الأوكرانية الحالية أو المنازلة الروسية-الأوكرانية، هي نموذج ومثال لما قدمناه من حالات الصراع بين الدول وانعدام الثقة بين روسيا وأوكرانيا. طلب أوكرانيا الانضمام لحلف الناتو يعني تهديداً أساسياً لأمن روسيا القومي، لأن حلف الناتو سيقوم بنشر سلاحه النووي على الحدود، وهو ما أوجب على روسيا مقاومة هذا الفعل بالقوة وإنطاق المدافع.
وبالتالي فإن المنازلات الدائرة على الأرض الآن لا يمكن اعتبارها فقط بين روسيا وأوكرانيا، بل بين روسيا من ناحية والولايات المتحدة وحلف الناتو من ناحية أخرى. صحيح أن الولايات المتحدة ودول حلف الناتو لم تكن ظاهرة في الميدان تفادياً لنشوب حرب إقليمية أو حرب نووية على أسوأ الفروض والسيناريوهات، إلا أنها دأبت على إرسال المعدات والآليات والصواريخ والمساعدات اللوجستية وفي خطوة لاحقة قامت بإعلان العقوبات الاقتصادية والمالية، في عدة خطوات أفصحت عنها.
لا يمكن التكهن الآن بنتائج الصراع، لكن فيما أتصور أن روسيا تخوض حرباً خاسرة ونزاعاً مكلفاً، وإن كانت تحقق تقدماً في الأرض. نصرها هو في حد ذاته هزيمة، لأنها ستخرج من المستنقع الأوكراني وهي منهكة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، كما أنهكت في النزال الأفغاني والنزال السوري. سيبدو هذا واضحاً بعد أن تسكت المدافع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.