“الملاك المنقذ” أم صاحبة مصلحة.. لماذا قد تنجح وساطة تركيا في إيقاف الحرب الروسية على أوكرانيا؟

عدد القراءات
529
عربي بوست
تم النشر: 2022/03/30 الساعة 14:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/30 الساعة 14:16 بتوقيت غرينتش
الوفدان الروسي والأوكراني في إسطنبول مع الرئيس التركي أردوغان/ الأناضول

مع انطلاق الحرب الروسية الأوكرانية تواتر عدد من التحليلات التي قدّرت أن موقف تركيا سيكون الأكثر حساسية، وأن سياسة الضغط التي اتجهت إليها واشنطن والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو سيصعب عليها أن تستمر في خط التوازن، لكنّ عدداً قليلاً من الباحثين مَن كان يقدّر أن بإمكان تركيا أن تحول التحدي إلى فرصة، وأنه بالإمكان ليس فقط أن تتوسط لحل الأزمة بين طرفي الصراع العسكري، وإنما بإمكانها أيضاً أن تقدم نموذجاً مختلفاً لفكّ النزاعات وتسويتها بين واشنطن وموسكو، بالشكل الذي يمنع التصعيد المُفضي إلى نسف الخطوط الحُمر في إدارة العلاقة بين هذين القطبين.

صحيح أن تركيا اختارت منذ البدء عدم الاصطفاف، فرفضت من حيث المبدأ التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وأعلنت تشبثها بوحدة الأراضي الأوكرانية. وصحيح أيضاً أنها سلكت خطاً مختلفاً عن الخط الذي اتجهت إليه واشنطن وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي، فتفهمت الانشغالات الأمنية الروسية، ورفضت الانخراط في حزمة العقوبات الأمريكية والأوروبية.

لكنها في المقابل أعلنت أن هذا الموقف ضروري بالنسبة إليها، ويفيد طرفي الصراع، بل يفيد حتى واشنطن والاتحاد الأوروبي، لأن هؤلاء جميعاً اختاروا خط التصعيد من دون أن يفتحوا نافذة للتفاوض، فظلوا يدفعون بموسكو نحو التصعيد، ويساهمون في مزيد من تدمير البنية التحتية لأوكرانيا، ومضاعفة المأساة الإنسانية، من غير أفق منظور، اعتقاداً منهم أن الضغوط على روسيا بالعقوبات، وتسليح أوكرانيا، ستنتهي إلى هزيمة استراتيجية للروس، وأن ذلك سيدفع موسكو إلى مراجعة خياراتها العسكرية، والتخلي عن أهدافها المعلنة من عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا.

في البدء، بدت فرنسا وألمانيا، كما ولو كانتا تمثلان الجناح السياسي الذي يضطلع بدور التفاوض، لكن انخراط برلين وباريس في الحزم الخمس للعقوبات، ومسايرتها للضغوط الأمريكية، جعل خطوط التواصل مع موسكو من قبل العاصمتين مجرد قناة لجس النبض، ومعرفة نوايا كل طرف على حدة، والسقف الممكن لتصعيده، وسمح بأن تمثل تركيا الخيار الوحيد الأنجع لإدارة الوساطة بين الطرفين.

لماذا تركيا؟

عملياً ثمة عوامل سياسية وأخرى استراتيجية، تجعل من دور تركيا الأكثر نجاعة في الوساطة.

فمن الناحية السياسية تحتفظ تركيا بعلاقات متوازنة مع كل من موسكو وكييف. فهي تقيم علاقات سياسية جيدة مع موسكو، ولها معها تفاهمات إقليمية متعددة في كل من ليبيا وسوريا، ولها خبرة في إدارة التنافس الإقليمي معها في عدد من المناطق، سواء في دول البلقان، أو في منطقة القوفاز، أو حتى في سوريا وليبيا نفسها.

وفي المقابل، حرصت أنقرة على أن تقيم علاقات متوازنة مع كييف، بلغت حد التعاون العسكري، وتمكين الجيش الأوكراني، عبر شركات خاصة، من عدد مهم من الطائرات المسيرة من نوع بيرقدار، التي كان لها تأثير حاسم في سير العمليات العسكرية الأوكرانية ضد روسيا في الميدان.

طائرات بيرقدار تستهدف منظومات دفاعية روسية غرب كييف/ وزارة الدفاع الأوكرانية

أما من الناحية الاستراتيجية، فعلاقة أنقرة بموسكو تمثل عنصر توازن بالنسبة إليها، وأداة ضغط على واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، التي انحازت إلى اليونان ومصر وإسرائيل في الصراع على غاز المتوسط، بل وخيار أساسي للرد على عدم وفاء واشنطن بتعهداتها تجاهها، فشراء أنقرة لمنظومة أس 400 الروسية، الذي أثار جدلاً حاداً سواء في واشنطن أو في الاتحاد الأوروبي، وبشكل أساسي داخل حلف الناتو، إنما كان في الجوهر جواباً على رفض واشنطن الوفاء بتعهداتها بتمكين أنقرة من صفقة F35، في حين تمثل عضويتها في الناتو، وشراكتها الاستراتيجية مع واشنطن، وعلاقتها بأوكرانيا، خياراً مهما لأنقرة  لتقليص المنافسة الروسية في مناطق النفوذ التركي الاستراتيجية.

المنظومة الروسية إس-400 / الأناضول

لقد كان عدد من الساسة الأمريكيين يلحون على أن يكون الموقف التركي نسخة طبق الأصل للموقف الأوروبي، وربما كانوا يفكرون في آليات للضغط على أنقرة للمضي في هذا الطريق، لكن الطريقة التي اختارتها واشنطن في إدارة الصراع مع موسكو، وتحويلها أوروبا وحلف الناتو إلى أدوات لتنفيذ أجندتها، جعلها تضطر في النهاية إلى أن تعترف بالحاجة إلى أن يكون الموقف التركي على ما هو عليه اليوم.

بل إن الأوروبيين أنفسهم، بعد أن سايروا ضغوط واشنطن، وجدوا أنفسهم في ورطة، ليس بسبب نتائج السياسات الأمريكية التي تدفعها إلى مواجهة تحدٍّ طاقيّ غير مسبوق، ولكن بسبب سحبها ورقة التفاوض من أيديهم، وعدم وضعها في أي يد أخرى، بما في ذلك اليد الأوكرانية، التي ظلت تابعة -على الأقل في الأسابيع الأولى للحرب- لأجندة واشنطن، لا تستطيع أن تنظر وتقدر مصالحها باستقلال عن الضغط والتوجيه الأمريكي.

ثمة اعتبار استراتيجي آخر، ربما فكرت فيه تركيا بشكل عملي، فخط التصعيد العسكري الذي لجأ إليه الطرفان، وتصاعُد موجة العقوبات والعقوبات المضادة، لم يعظم فقط سلة المخاطر، بل فتح بجانب ذلك سلة كبيرة من الفرص، إذ أضحت أنقرة ملاذاً أساسياً للاستثمارات الفارّة من روسيا وأوكرانيا على السواء، وصارت ملجأً أيضاً لاستقطاب الرساميل (رؤوس الأموال) الروسية التي تعرضت للاستهداف في دول أوروبا، بل أضحت بديلاً مهماً لروسيا، سواء على مستوى جلب قطع الغيار، أو على مستوى بيع كثير من منتجاتها الخاضعة للعقوبات الأمريكية والأوروبية.

لهذه الاعتبارات كلها يمكن أن نخلص إلى أن وساطة تركيا مثّلت لأنقرة الخيار الأمثل، ليس فقط للخروج من حساسية الموقف المتوازن، بل وأيضاً لمحاولة تحويل التحدي أو المخاطر إلى فرص، لاسيما بعد دخول الحرب شهرها الثاني، ووصول التصعيد لدرجة التهديد بورقة الطاقة.

تركيا واستيعاب المعركة

تركيا فهمت بشكل مبكر أن روسيا تمتلك ورقتين مهمتين: السلاح النووي، وسلاح الطاقة، ولذلك لم تكن متفقة تماماً مع السياسة الأمريكية تجاه روسيا، وعلى تمدد خارطة الاستهداف لمنظومتها الأمنية إلى أوكرانيا، وكانت دائماً تحذر من عدم تفهم الانشغالات الأمنية الروسية، وتصر على عدم إعطاء أي مبرر لموسكو لتعريض وحدة الأراضي الأوكرانية للخطر.

ورقة السلاح النووي الروسي جعلت أنقرة تدرك أن أقصى ما يمكن أن تقوم به واشنطن، ومعها الاتحاد الأوروبي، وأيضاً حلف الناتو هو إمداد كييف بالسلاح، وفرض عقوبات على روسيا لإضعاف قدرة اقتصادها على تمويل كلفة الاستمرار في الحرب. وخبرتها في العلاقة مع روسيا جعلتها تدرك في المقابل قدرة موسكو على تعطيل فاعلية هذه المقاربة الأمريكية والأوروبية، أو على الأقل منعها من التشويش على أهدافها.

أما ورقة الغاز فأنقرة أدركت مبكراً أن قدرة أوروبا على الاستمرار في خط التصعيد ستكون محدودة، لا سيما في ظل عدم وجود خيارات على المدى القريب بتعويض مصادر الطاقة الروسية، وأنها في النهاية ستضطر إلى أن تفجر خلافاتها مع مقاربة واشنطن وبريطانيا. ولذلك اتجهت أنقرة إلى الخيار العقلاني، أي أن تكون منذ البدء في الموقع الذي يسمح لها بتحريك وساطة جدية ذات مصداقية، تنظر إلى مصالح الطرفين، وتضمن تحقق حل عادل تحفظ فيه كل من موسكو وكييف ماء الوجه، ويخرج الطرفان خروج غير الخاسر.

أوكرانيا روسيا إسطنبول
المفاوضات الروسية الأوكرانية في إسطنبول/ رويترز

المؤشرات التي ظهرت على الساحة العسكرية والسياسية والدبلوماسية تشير إلى أن الدور التركي هو العنوان الكبير الذي تنتظره كل العواصم، فعلى المستوى العسكري لم تستطع موسكو أن تحسم الحرب وتدخل كييف، وفي المقابل بدأت كييف تشعر بأنها مع كل المقاومة التي أبدتها، فإنها تخشى أن تصل إلى النقطة التي يصعب معها أن تحصل الضمانات الأساسية لأمنها ووحدة أراضيها، ولذلك لجأ الطرفان معاً إلى التفاوض.

أما على المستوى الاستراتيجي، فقد كان لرد موسكو على عقوبات واشنطن والاتحاد الأوروبي، بضرورة الدفع بالروبل للإمدادات الطاقية من الغاز والنفط الروسي إلى أوروبا، أثر كبير في تحويل الوجهة إلى الورقة الدبلوماسية بدل الورقة العسكرية، لا سيما من الجانب الأوروبي، ولوحظ لجوء باريس إلى تشغيل قناة التواصل الهاتفي مع الرئيس الروسي، محاولة منها لمنع حدوث المحظور، كما لوحظ التسريع بعقد جولة للتفاوض في إسطنبول، تشير مخرجاتها الأولية إلى تقدم كبير في عدد من الملفات، وابتعاد أوكراني مهم عن وجهة نظر واشنطن، وبروز عقلانية مهمة في التفاوض من  الجانب الروسي.

المحصّلة

في المحصلة، تشير النقاط التي تم تسريبها عن المقترحات الأوكرانية أن وجهة النظر التركية التي تم الإعلان عنها قبل أن تنطلق الحرب، هي التي مثلت الأفق للقاء الطرفين، إذ كانت أنقرة تلحّ على ضرورة مراعاة الانشغالات الأمنية الروسية، مع تأمين وحدة الأراضي الأوكرانية، وأن ذلك يمكن أن يتم إذا ما تم تقديم مقترحات لحياد أوكرانيا وخلوّها من الأسلحة النووية، وامتلاكها جيشاً لا يمثل تهديداً لروسيا، فضلاً عن ابتعادها عن أي طموح للانضمام لحلف الأطلسي أو أي تحالف عسكري يمكن أن يمثل تهديداً أمنيّاً لموسكو.

خلاصة الموقف، تمتلك تركيا فرصاً مهمة للنجاح في وساطتها، لكونها تحمل نموذجاً مختلفاً في تسوية النزاعات، يتجنب الرؤية الأمريكية المبنية على معادلة "حقق مطالبي أو ستُواجِه العقوبات التي تسحقك"، وتتبنى معادلة أخرى تقوم على مبدأ فهم المصالح المتشابكة، وتفهم الانشغالات الحيوية للطرفين، وأن هناك إمكانية لخطِّ طريق وسط، يضمن تحقيق مصالح الطرفين، وهو ما تفسره كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حين قال: "في الحرب ليس هناك فريق خاسر، إذا كان هناك حل عادل".

مقاربة في حال نجاحها ستفتح المجال للدول الصاعدة أن تفتح نافذة واسعة للمطالبة بتغيير القواعد التي يقوم عليها النظام الدولي، والتي أثبتت فشلها في إقامة السلام والأمن والاستقرار في العالم، وأيضاً في التأسيس لمسلكيات سلمية لتسوية النزاعات بين الأقطاب المهيمنة عليه.

التقدير أن تركيا ستنجح في مقاربتها، لسبب جوهري، هو أن روسيا تريد أن تحقق مطالبها الأمنية من غير الاستمرار في حرب مكلفة، وأن أوكرانيا باتت مقتنعة بأن خيار حيادها مع حفاظها على وحدة أراضيها بضمانات دولية وعلاقات جوار هادئة مع موسكو أفضل بكثير من تعريض بلدها إلى الدمار، مع وجود دول تدفعها لمزيد من المقاومة والحرب دون أن تكلف نفسها عناء إمدادها بما يلزم لتحقيق تغيير جذري لموازين القوى العسكرية لصالحها.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

بلال التليدي
كاتب ومحلل سياسي مغربي
كاتب ومحلل سياسي مغربي
تحميل المزيد