رمضان بين العبادة والاستهلاك.. مَن حوّل الشهر الفضيل إلى “موسم ترفيهي”؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/03/30 الساعة 10:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/30 الساعة 10:55 بتوقيت غرينتش
أسرة مسلمة مجتمعة أمام التلفاز في وقت الإفطار برمضان/ Shutter Stock

يعتبر شهر رمضان أبرز المواسم التي تهم المسلمين في العام؛ حيث يلتزم المسلمون ببرنامج تعبدي مكثف يشمل الصيام يومياً من طلوع الفجر حتى غروب الشمس باعتباره أحد أبرز فرائض الدين قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، ويرافق الصيام عدد من العبادات التي يحرص المسلمون على أدائها في رمضان مثل صلاة التراويح في جماعة والتهجد والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.

لا يقتصر شهر رمضان على العبادات والفرائض فقط، بل ترافقه عادات اجتماعية مثل التزاور وتبادل الدعوات العائلية على الإفطار والسهرات التي يهدف بعضها للتعبد وبعضها للترفيه!

يصوم المسلمون في هذا الشهر فترة تتراوح بين 14 و15 ساعة في المتوسط وقد تزيد في بعض الدول، والقاسم المشترك أن ثلثي اليوم تقريباً يقضيهما المسلم ممتنعاً عن الطعام والشراب، وكذلك ممتنعاً عن الكثير من أوجه الترفيه التي تعتبر من المحرمات والمكروهات حتى لا يضيع أجر الصيام ففي الحديث الشريف (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش).

رمضان وسُعار الاستهلاك

وفق الحسابات النظرية ينبغي أن ينخفض معدل استهلاك الفرد المسلم في شهر رمضان فيما يخص الغذاء، حيث يتقلص عدد الوجبات التي يتناولها الفرد على مدار اليوم، كما أن الوقت المتبقي من اليوم يقتطع منه وقت للنوم ووقت للصلاة وهو ما يجعل الوقت المتاح لتناول الطعام أقل من المعتاد على مدار العام بكثير، علاوة على وصية النبي ﷺ بالقصد والترشيد في تناول الطعام عموماً: (ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه فإن كان لا محالة فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)، والوصية القرآنية الواضحة: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]، كل هذه المؤشرات "النظرية" يلزم منها أن ينخفض الاستهلاك للنص على الأقل إن لم يكن الثلث في شهر رمضان!

في شهر رمَضان تتضاعف الحسنات على الأعمال الصالحات مما يشكل موسماً للانشغال بها، ففي الحديث: (يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، ومن تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه)، فمن المنطقي ألا يوجد وقت كافٍ للترفيه، حيث يتركز الوقت في هذا الشهر بين العبادة والعمل، ووفقاً لهذه المعطيات من المتوقع "نظرياً" أن تنخفض معدلات متابعة الإنتاج الإعلامي ووسائل الترفيه المختلفة، مما يدفع بمؤسسات صناعة الترفيه على اعتبار رمضان موسم "إجازة" ويتوجه التركيز إلى فترات أخرى من العام مثل الإجازات والأعياد على سبيل المثال.

معرض للسلع الغذائية في مصر استعداد لرمضان/ رويترز
معرض للسلع الغذائية في مصر استعداد لرمضان/ رويترز

هذا على الصعيد النظري، فما هو الواقع؟

تشير إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري إلى أن أكثر من 85% من المصريين يغيرون عاداتهم الغذائية في شهر رمضان، ويرتفع حجم الاستهلاك بنسبة تقترب من 150%، أي يعادل حجم استهلاك 3 أشهر بالسنة، ومثل هذه الإحصاءات نجدها في الدول ذات الغالبية المسلمة، فبدلاً من انخفاض الاستهلاك إلى الثلث نجده يزيد ثلاثة أضعاف!

لا يقتصر الاستهلاك الغذائي في رمضان على زيادة في الكم فقط، بل تظهر الحاجة إلى نوعيات مختلفة من الطعام ليست على القائمة الغذائية المعتادة لغالب العائلات، فهناك حلويات "رمضانية" ومشروبات "رمضانية" تعتبر مائدة الإفطار "ناقصة" عند غيابها، وهو ما يشكل ضغطاً مادياً إضافياً على ميزانية غالب الأسر في شهر رمضان.

موسم ترفيهي؟

وفيما يخص الترفيه، يعتبر رمضان هو الموسم "الرابح" في العام من حيث المسلسلات "الرمضانية" التي تصل في بعض السنوات إلى 18 مسلسلاً تنطلق كلها في شهر رمضان بحلقات يومية يتراوح متوسط الحلقة الواحدة بين 40 و50 دقيقة تتخللها فترات إعلانية غالباً ما تكون طويلة نسبياً.

وتتابع الأسرة الواحدة في المتوسط مسلسلين أو أكثر في الشهر الفضيل، وهو ما يعني تحقيق أرباح طائلة لمنتجي المسلسلات من وراء العمل في شهر رمضان، ونظراً لاعتبار رمضان فرصة وماراثون وموسماً مهماً للإنتاج الفني نجد كثيراً من المسلسلات يتم البدء في تصويرها قبل انتهاء كتابتها، وبعضها يتم بثها قبل استكمال تصوير حلقاتها!

ببساطة يمكننا أن نقول إنه من خلال هذه الأرقام إن المسلمين غاية في البعد عن مقاصد الصيام التي تدور حول التخلي عن متاع الدنيا والتركيز على تنمية الجانب الروحاني في حياة الإنسان، وكذلك بعيدين عن الحسابات المنطقية في معدلات الاستهلاك، فما سر هذا التناقض الغريب؟!

تعتبر أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا الواقع المؤسف هو الاعتبارات التجارية التي خلقت أسواقاً للمنتجات المختلفة عبر الترويج المكثف في وسائل الإعلام المختلفة، وهو ما أثمر في تغيير في نمط الاستهلاك من حيث الكمية والنوعية.

كذلك لا يمكن النظر بحسن نية إلى كثافة الإنتاج الفني في رمضان، على الرغم من توفر أوقات أخرى في العام أكثر اتساعاً مثل الإجازات الصيفية، ولعل المحرك الأساسي لذلك هي الرغبة في فرض اهتمامات على المجتمع تبتعد به عن الأجواء الروحانية المتوقع توفرها في شهر رمضان، وهو ما أثمر تصدر المسلسلات الرمضانية نتائج محركات البحث في شهر رمضان!

إن هذه الاعتبارات التجارية والسياسية ابتعدت بشهر رمضان من كونه موسماً للعبادة والتزكية تتوق العائلات المسلمة لاستقباله، لما فيه من أجواء روحانية تخفف الضغوط النفسية وتعين المسلم على ضبط بوصلة حياته، ليتحول إلى عبء ثقيل يعاني منه أرباب الأسر وربات البيوت لتوفير متطلباته الاستهلاكية العالية، خاصة مع أوضاع اقتصادية طاحنة تمر بها العديد من البلاد ذات الأغلبية المسلمة، وهو ما جعل العبء مضاعفاً من أجل تحقيق متطلبات "الشهر الفضيل" حسب تصورنا الحديث!

كيف يمكننا العودة؟

إن مطالبة الأفراد بترشيد الاستهلاك ومقاطعة المواد الإعلامية في الشهر الفضيل لا يمكن اعتباره الحل الوحيد لهذه الحالة الفريدة من التناقض بين النظرية والتطبيق في التعامل مع شهر رمضان، فالدولة بأجهزتها وأدوات تحكمها في المجتمع تدعم هذا المسار الاستهلاكي، سواء بدعم الإنتاج الفني المكثف في شهر رمضان الذي بدأ بالفوازير الراقصة في التلفزيون الرسمي المصري في عصر ما قبل الفضائيات، ووصولاً في أيامنا الحاضرة إلى شركات الإنتاج الإعلامي التي لا تستطيع السير خارج توجيهات قيادة الدولة حتى وان كانت تعرض ما تنتجه في قنوات خاصة!

رمضان
الأسرة في رمضان/ Shutter Stock

إن الضغوط المكثفة التي تتم على المواطن العادي سواء عبر التكثيف الإعلاني وتهيئة الأجواء العامة لرمضان باعتباره موسماً استهلاكياً تعتبر أحد أبرز أسباب هذا الواقع المؤسف، ومن أجل تغييره ينبغي أن تتضافر الجهود لتغيير السلوك والقناعات على المستوى الفردي، وكذلك ينبغي أن تتخذ الدولة خطوات لاحترام الشهر الفضيل باعتباره موسماً للعبادة وليس موسماً للاستهلاك الغذائي المكثف والمشاهدة المتواصلة للمسلسلات وإقامة "الخيم الرمضانية" التي تستضيف العازفين والراقصين، وحينها يمكن أن يحدث التغيير المنشود في التعامل مع شهر رمضان.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

إسلام هلال
باحث أكاديمي مهتم بالشريعة والقانون وعلم الاجتماع
باحث أكاديمي مهتم بالشريعة والقانون وعلم الاجتماع
تحميل المزيد