“المَلّة”.. قصة الشجرة التي أشعلت يوم الأرض في فلسطين

عدد القراءات
3,748
عربي بوست
تم النشر: 2022/03/30 الساعة 13:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/30 الساعة 13:41 بتوقيت غرينتش
مواجهات بين فلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلي/ الأناضول

كانت هذه التلال غابات تحتشد بالأشجار القديمة التي تفترش تحتها عروق الزعتر البري، وآذان اللوف الأخضر، وأعشاب الفيجن الخضراء، وتمرح فيها المواشي، وترتبط بها خيول السعي والمطاردة، ويغنّي فيها الرعاة، ويتسلل إليها القطروز تلو القطروز.

كانت ثمار البلوط البلَحي والمقنطَر والمفلطح تتساقط مع أوراقها من أشجار الملّ والملول والسنديان، وكلها تنتج لنا بلوطاً من ذوي القبعات المحرشفة.

كانت جذوعها القديمة مأوى للعابرين، ومقاماً للصالحين، ومرقداً للمنقطعين، ومتنزّهاً للزائرين.

كنتَ تسمع فيها أصوات الأطيار المنغّمة، وصياح الرياح المتناوِحة، وترى ألوان زهور الربيع المتراقصة.

كانت الحياة صاخبة فيها إلى حد النشوة، تتشاطرها قبائل بدوية لا تزال ترعى وباتت تزرع، يحدّدون مناطقهم بأشجار مَلّة معروفة مشهورة بأسمائها وأحجامها وأشكال قعود سيقانها العريضة، وقد كانوا يأتون من سخنين وعرابة البطوف ودير حنا وعرب السواعد وكابول، وينصبون عرائشهم في غابتها.

وفي ليلة ظلماء صادر المحتلّ كل هذا النعيم، وحوّل غابة الملّ العتيقة إلى مرمى نيران، واحترقت جذوعها، واشتعلت أعشاش جحورها الخشبية التي تؤوي طيور الأرض الساكنة، وقبل أن يجعلوها منطقة عسكرية مغلقة حملت اسم "المنطقة 9" تحرّشوا بها، واقتحموها، وأدخلوا عليها بلّوطاً هجيناً أبيض البشرة، يمكنك أن تكشف هجنته بإشعال حطبة منه، فشجرة الملّة الفلسطينية حمراء غير هذه البيضاء التي تأكل شجرتنا، وكان الرعاة يأخذون غصونها المعوجّة ويلفحونها بالنار ويغمسونها بالماء المغلي فتتقوّم وتصير في أيديهم عصا الراعي.

هناك في الجزء الشمالي الشرقي من مرج سخنين بين عرابة وسخنين ودير حنا في سهل البطوف المستوي بدأت قصة يوم الأرض: كانت مساحتها نحو 42 ألف دونم مكتظّة بالملّ، منع المحتل الناس من ريادة أرضهم إلا لمن يحمل تصريحاً يجددونه كل ثلاثة أشهر، ثم أرادوا اقتلاع كل شيء فحوّلوا 17 ألف دونم منها إلى منطقة عسكرية تماماً تتراص فيها الدبابات والقواعد الصاروخية وآلات الموت.

رفض أهلنا العاشقون لأرضهم هذا التغوّل على هويتهم التي تحملها روح أرضهم ومتنفسهم وبساتينهم، وانضمّ إليهم من لا أرض له هناك أيضاً، فاتحدوا وثاروا وأعلنوا الإضراب، وتحدّاهم العدو بحظر شامل للتجوال قبل موعدهم بيوم، وانتشر جيشهم وشرطتهم في بلدات سخنين وطمرة وطرعان وكابول وعرابة البطوف ودير حنا وعرب السواعد، وارتقى ستة أقمار (خديجة ورجا وخير ورأفت وخضر ومحسن)، وجرح خمسون، واعتقل 300.

ومنذ ذاك الحين بدأت ملحمة يوم الأرض -الهبّة الأولى- ولا تزال عارمة قويّة كما بدأت أول مرة بفَزعة قوية لم ير الناسُ مثلها، واشتعلت من الناقورة إلى النقب في وحدة عجيبة، وامتدّت روح ذلك اليوم إلى كل عاصمة تحمل على سطحها بذرة فلسطينية حرّة إلى اليوم.

ولكن ما زالت التلال تموت هناك يا صديقي، ولم يبقَ من الملّ إلا بضع شجرات، وما زالت الأشباح السوداء تطوف بالمكان، وتطفئ أنوار القمر، وتحبس شعاع الشمس، ولحن العصافير المطرودة!

فمتى تعود أيها العصفور لتغنّي، ومتى تشمخ الملّة في مرج سخنين الأخضر كما كانت؟!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أسامة الأشقر
مؤرخ وروائي فلسطيني، وباحث في الشأن الإفريقي
مؤرخ وروائي فلسطيني، وباحث في الشأن الإفريقي
تحميل المزيد