مباراة كرة قدم في كل العالم.. ليلة مُفترجة في مصر
في مصر، يجلس المحللون من بعد صلاة الظهر لتحليل مباراة تبدأ في التاسعة مساءً، ويسهرون عليها حتى الفجر؛ كأنها مناسبة دينية.
المحللون لابد أن يكونوا من اللاعبين، اللاعبين السابقين، مهما كانت ضحالة أفكارهم، ومهما تكرر المشهد المذكور أعلاه، فإنهم يتحدثون دائماً عن نفس النقاط.
يتحدثون عن كل الفرق وكأنهم مُلمّون بكل شيء، ويتحدثون عن كل المدربين وكأنهم مارسوا مهنة التدريب بصورة احترافية.
عكس أوروبا، التي يتحول فيها اللاعب إلى لاعب ومدرب في وقت من الأوقات، أو بعد الاعتزال يتجه للدورات التدريبية لتثقيف نفسه، هو الذي قد يكون من أفضل لاعبي جيله وعصره في مركزه، وتتلمذ على أيدي عباقرة التدريب، لا يجلس في استوديو تحليلي إلا بعدما يكون قد فعل نقطة من النقطتين المذكورتين في الأعلى.
ما الغريب في الأمر؟
من 22 نسخة لُعبت لكأس العالم، تأهلت مصر على مدار تاريخها كله، وبمختلف أجيالها، وبحضور أعظم لاعبي الكرة المصرية، ثلاث مرات، ثلاث مرات فحسب كانت نتيجة مُرضية لبلد يتسيّد قارتها في نفس المجال: كرة القدم.
ثم يجلس المحللون لمناقشة: ماذا يمكن لمصر فعله لتتأهل إلى كأس العالم؟ لماذا على المدرب الفلاني أن يضع خطة كذا بدلاً من خطة كذا إذا أراد حقاً أن يتأهل إلى كأس العالم؟
يجلس المحللون لمناقشة: من اللاعب الذي يستحق التواجد في المنتخب الذي تأهل ثلاث مرات من أصل 22 نسخة وهل تواجده منطقي أم ظُلم لغيره إثر هذا الاختيار.
فتاة التيك توك!
بعد مباراة الذهاب في القاهرة، نشرت إحدى الفتيات مقطعاً تتحدث فيه عن جولتها السياحية لاستاد القاهرة، والفتاة تبدو من الطبقة الثرية التي تحجز كابينة خاصة في الملعب، وتتناول ورق العنب من الغرفة الخاصة، وتحتسي مشروبات يحتسيها عادةً الأثرياء.
لكن الناس تناقلوا المقطع بطريقة كوميدية، بطريقة تُشعرك بأن الفتاة هي من تسببت في كل شيء حدث ويحدث في مصر، وأن الأثرياء، تحديداً من يتناولون ورق العنب أثناء المباريات؛ مذنبون لأنهم يعتدون على حق من حقوق المواطن العادي.
المواطن الذي يُصلي الظهر ويفتح التلفاز لينتظر الاستوديو التحليلي، الذي يجلس فيه المحللون لتحليل مباراة في التاسعة مساءً، ويسهرون عليها حتى الفجر، لمناقشة: لماذا لم تتأهل مصر لكأس العالم إلا في ثلاث مرات من أصل 22 نسخة لُعبت للبطولة؟ وهل نعتبر هذا فشلاً حقاً أم نحاول من جديد؟
كرة القدم لعبة حروب.. إلا إذا!
في داكار، بالأمس، رأى الشعب المصري كيف يتعامل جمهور كرة القدم مع المباريات المصيرية، لقد نجحت الجماهير السنغالية في تكتيف لاعبي المنتخب في فترات طويلة وحتى من قبل بداية اللقاء.
في داكار، أدرك الشعب المصري أن هناك وسائل للضغط على المنافس تبدو مشروعة ما شرعها المسؤولون عن التنظيم، مثل تركيز الليزر على أعين لاعبي الخصم، مثل إلقاء الزجاجات لتوتير لاعبي الخصم.
لا تستهجن، فهذه المناظر العدائية –المرفوضة بالمناسبة- ستراها في أرقى دوريات العالم، ليس فقط في إطار التنافس الدولي، ففي عام 2010 لم تتعلم مصر من نكستها في أم درمان أمام الجزائر.
لقد لعبت مصر في أم درمان كأنها في العاصمة الجزائر بالذات، من شدة الضغط الذي مارسته الجماهير الجزائرية على المنتخب، والذي تحول فيما بعد إلى بكاء وعويل من الفنانين المصريين بحجة ترويعهم هناك.
في السعودية، في أهم مباريات الدوري السعودي، سترى الزجاجات تُلقى على اللاعبين الذين ينتمون إلى الخصم، سترى صافرات استهجان، لكن يبدو أنهم هنا في مصر يتفاجؤون بأن هذه الأساليب موجودة في عالم كرة القدم.
ماذا عن آكلي ورق العنب في الأرجنتين؟
صحفي ESPN توماس ثمبسون، كان في تغطية من قلب الأرجنتين قبل مباراة ريفير بليت وبوكا جونيورز الشهيرة، والتي وُصفت بنهائي القرن في عام 2018 لنهائي بطولة الكوبا ليبرتادوس، وكان معه مترجم، المترجم اسمه توماس، المترجم يحكي عن واقعة شاهدها لاثنين من مشجعي ريفير بليت.
الأول يقول: الهزيمة كفيلة بتغيير يومي بأكمله.
الثاني يرد: لا، الهزيمة كفيلة بتغيير حياتي كلها.
قالوا لتوماس: "نحن هنا نسألك ما اسمك، ثم نسألك من تشجع؟ لا يعنينا أي شيء آخر".
مشجع ثالث للريفر، قال إن فكرة الهزيمة ليست مطروحة من الأساس، فتكاليفها باهظة كما تعلم، لا يفكرون فيها لأنهم لن يتحملوها، وهذا ما قاله الرئيس الأرجنتيني السابق ماوريسيو ماكري، الذي كان رئيساً سابقاً للبوكا: "أياً كان الخاسر، فإنه سيحتاج ما لا يقل عن 20 سنة لنسيان الهزيمة".
ماذا عن كارهي آكلي ورق العنب في الأرجنتين؟
من جانب البوكا، وبما أنهم الطبقة الفقيرة، وكون الملعبين ممنوعاَ فيهما حضور جماهير الخصم، لا جماهير البوكا تحضر في المونيومنتال، ولا جماهير ريفر تحضر في البومبونيرا، فكانت جماهير البوكا قبل لقاء العودة، تذهب إلى بيوت اللاعبين وأبرزهم كان تيفيز، ويحثونه على جلب اللقب، ويكون هو صرختهم الوحيدة في صمت جماهير الريفر.
وحينما انتقل النهائي إلى مدريد، نيكولاس ماريتا، أحد أعضاء ألتراس البوكا، يقول إن القصص التي حدثت كانت غريبة، أشخاص طلقوا زوجاتهم لكي يستطيعوا السفر خلف فريقهم، وزوجاتهم أخبروهم: "نحن أم البوكا؟" وكان ردهم "بوكا بالطبع".
يقول إن الجنون لم يتوقف هنا فحسب، قصص ثانية وصلتهم، إن هناك أشخاصاً طلبوا يوم إجازة من أعمالهم للسفر للنهائي أو التفرغ لمشاهدة النهائي، ومديروهم رفضوا، فقدموا استقالاتهم لنفس السؤال "نحن أم البوكا؟" وهذه ليست مبالغة؛ لأن طبقة البوكا طبقة فقيرة، ومنهم كُثر ضحوا لدرجة أنهم عرضوا سياراتهم للبيع لكي يُوفروا ثمن التذكرة.
وفي ظل هذه الأحداث، شاب اسمه ماتياس ألفاريز، كان يبحث عن وظيفة، وكان قد اشترى تذكرة بالفعل، فعرضها على حسابه في الفيسبوك وقال إنه ليس مستعداً للتفريط فيها مقابل أي شيء إلا إذا وفر له أحدهم وظيفة مثالية!
جاك تشارلتون يكره مصر لهذه الأسباب
في إيطاليا، عام 1990، تحدث مدرب المنتخب الأيرلندي جاك تشارلتون عقب مباراة مصر قائلاً: "أنا أكرههم، أكره الفرق التي تلعب بنفس أسلوبهم، لماذا تأتون إلى كأس العالم؟ لماذا تأتي من بلدك لكي لا تفعل أي شيء ثم تغادر؟ على الأقل أمام هولندا سنواجه فريقاً سيحاول أن يُهاجمنا مثلما نهاجمه".
خسرنا لعدة أسباب
أهمها:
المذيع يعرف أكثر، يعرف أننا نواجه منتخباً ضعيفاً على حد وصفه، منتخب لم يهب المنتخب المصري في القاهرة وقدم أداءً يدل على أن مصر الأوفر حظاً للسفر إلى كأس العالم في قطر.
لكننا خسرنا لسبب، تسألني ما هو؟ لا أعرف، لكننا خسرنا لسبب ما، نحن أبرع الناس لخلق الأعذار عند كل فشل.
نكتشف أن الملاعب الإفريقية سيئة حينما نزورها، رغم زيارتنا لها لأكثر من قرن.
نكتشف أن الأفارقة يرقصون في المدرجات أياً كانت نتيجة المباراة، ونكتشف أن المناخ ليس آمناً رغم درايتنا بكل هذه التفاصيل، لكن لسبب ما خسرنا.
ذهبنا إلى كأس العالم ثلاث مرات من أصل 22 مناسبة، لكن لسبب ما لا نتواجد هناك في رأيي، ولابد أن أعرفه، لكن هذا لا ينفي وجوده.
ماذا أضعت يا صلاح؟
حينما ننتصر، فإننا نشعر بمصريتنا، نهتف باسم مصر، ونشغل الأغاني الوطنية التي تجعلنا نتناسى حياتنا المحتضرة، ونكتب الأشعار في لاعبين لم يصلوا سوى ثلاث مرات من أصل 22 مناسبة ممكنة لكأس العالم.
وماذا بعد؟ ماذا لو سجل صلاح وصعدنا؟ ماذا بعد؟ سنشغل الأغاني، الأغاني التي تشعرنا بمصريتنا، سنهتف باسم مصر، سيسافر الفنانون إلى قطر لدعم ومؤازرة المنتخب المصري، تماماً مثلما فعلوا في روسيا.
ثم سنكتشف أننا نعود أدراجنا سريعاً، نغادر من دور المجموعات في كأس العالم، سيخرج جاك تشارلتون عن شعوره حينما نواجهه وسيندم أشد الندم أنه قابلنا في يوم من الأيام، هذا لأننا نذهب لمجرد الذهاب، نؤمن بالتمثيل المشرف، نؤمن بأن علينا أن نكون من ضمن الحضور، حتى وإن كنا نتقمص دور الكومبارس.
ثم سنعيد السلسلة من أولها حتى آخرها دون تفويت عقدة منها، المحللون، الجمهور، المذيع، ونكتشف ما نكتشفه؛ لنتأكد أن هناك سبباً وراء إخفاقاتنا، ما هو؟ يوماً ما سنكتشفه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.