وجدت في إحدى مكتبات بروكسل العربية كتيّباً صغيراً لأكرم ضياء العمري عنوانه "الحياة الاجتماعية والاقتصادية في عصر النبوة". والحقيقة أحببت الكتاب أكثر من كتبه الأخرى! وهو يتحدث فيه عن الحياة اليومية في المدينة في عصر النبوة. ورغم أن الكتيب لا يزيد على تسعين صفحة، فإن وراءه عملاً طويلاً وبحثاً مدققاً في المصادر الإسلامية. وقد أعجبني الجزء الذي تحدث فيه عن الحرف كالنسيج والخياطة والصباغة والدباغة، وكذلك الجزء الذي تحدث فيه عن الأعراس والأعياد والألعاب وملابس المرأة والأعمال التي كانت تزاولها.
وكنت أتوقع أن يكون في الكتاب فصل عن العطور، ولكن لم يحدث هذا للأسف. فلم أجد في الكتاب كله إلا جملة واحدة يقول فيها "كما استعملت النساء الطيب مثل المسك والعنبر والمورس والزعفران، واستعملن الحناء لخضب الكف والقدم، كما استعملن الخضاب للشيب من الحناء والكتم" (ص 80).
وهي كما ترى جملة عامة لا تعبر عن أية خصوصية، رغم أن الجزيرة العربية مشهورة منذ القدم بحبها للعطور. وقد لاحظ هيرودوت هذا في كتابه "التاريخ"؛ حيث تحدث عن ولع أهل الجزيرة بالعنبر والكافور وغيرهما من العطور حتى إنه قال نصاً: "الجزيرة كلها تتنفس رائحة في غاية العذوبة" (3/107). بل زعم البعض أن العطر كان يحل محل الدم في الأضحية، فكان العربي من أجل التوقيع على عهد قطعه يغمس يده في إناء مليء بالعطر ثم يمسح يده في جدار الكعبة!
ونعرف من الحديث النبوي أن النبي حُبب إليه من الدنيا ثلاثة: النساء والطيب والصلاة. طبعاً الصلاة أمر مفهوم ولا خلاف في تعليله. أما حبه للنساء والعطور فتجد لهما تعليلات لا يمكن وصفها إلا بالقصور وعدم الذكاء. كأن يقول أحدهم "حُبب إليه النساء زيادة في الابتلاء"! ويبدو لي من التعاليل الذهنية التي تقبع خلفه والتي تحشر النساء فقط في دور الابتلاء! فهل لا يمكن أن نقول ببساطة ودون تأول إنه أحبهن لأن هذا ميل بشري طبيعي، والرسول بشر يبحث عن سكن لدى المرأة كغيره من أبناء آدم، وهذا لن يقلل أنملة من حبنا وتبجيلنا له وإيماننا بما جاء به من التوحيد وحقه. وربما يأتي وقت نقول فيه دون فذلكات أنه أحبهن لأنهن يستأهلن الحب لذواتهن قبل أي شيء آخر! ولربما يجد المسلم آنذاك أن هذه إجابة مقنعة وتكفيه!
ثم هناك من قال (أظنه السيوطي) أن هذا "لم يكن لشهوة منه في النكاح، ولا كان يحب الوطء للذة البشرية- معاذ الله- وإنما حُبّب إليه النساء لينقلن عنه ما يستحي هو من الإمعان في التلفظ به، فأحبهن لما فيه من الإعانة على نقل الشريعة".
والحقيقة لا أدري لماذا استعاذ السيوطي بالله من وجود اللذة البشرية لدى النبي وكأنها شيء ممقوت مكروه! مع أنها الشيء الطبيعي الذي جُبلنا عليه. فهذه اللذة في ذاتها ليست عيباً، لكن أسلوب إشباعها فقط إذا كان ليس طبيعياً. ومن الغريب أيضاً قوله إنه تزوجهن فقط لينقلن عنه ما يستحيي من الإمعان في التلفظ به، كالجماع وأحكام الغسل والحيض والنفاس وما شابه ذلك.
ولا أدري كيف خطر للسيوطي أن نبياً مرسلاً يمكن أن يستحي من توصيل جزء من الشريعة التي أُرسل بها! لا شك أن هذا التعليل مصاغ بطريقة جيدة، ولكنه في عمقه افتئات على النبي (صلى الله عليه وسلم) لأنه يقوّل النبي ما لم يقله، بل يقوّله شيئاً يتناقض مع دوره نبياً مرسلاً للجميع وعليه إبلاغ رسالته كاملة للجميع دون استحياء ودون وساطة أحد.
والزعم بأن حياء النبي عاقه عن إبلاغ جزء من رسالته لذا تزوج حتى يبلغ هذا الجزء عبر نسائه يذكرني بتعليل عدم إمكانية تعليق المعلقات الجاهلية (الشعرية) في إحدى جنبات الكعبة عندما زعم أحدهم أيضاً أن الكعبة أجلّ من أن يعلق فيها شعر، مع أن الكعبة آنذاك كان بها أكثر من 360 صنماً وبها صور للمسيح وللسيدة مريم! فصاحب التعليل لا يستوعب أن المعلقات علقت في سياق جاهلي وثني!
أما عن سبب حبه (صلى الله عليه وسلم) للعطور فقيل فيه إنه يناجي الملائكة وهم يحبون الطيب. وهذا أيضاً غريب لأنه يقصر حبه للطيب فقط على ذلك؛ إذ ربما أنه أحب العطور قبل أن يعرف بوجود الملائكة أصلاً! أحبها مثلا لأنه تريحه نفسياً منذ أن كان طفلاً صغيراً، أو لأنها وببساطة تستحق الحب لذاتها كالنساء تماماً، أو لأنها عادة عربية كانت منتشرة من قبل الإسلام بقرون طويلة، حيث كان العرب يستعملون العطور دون أن يناجوا أية ملائكة، وكما سبق فإن هذا الأمر فيهم قديم مشهور حتى إنه لفت نظر الرجل اليوناني هيرودوت.
ونعرف تاريخياً أن ولع أهل الجزيرة بالعطور جعلهم يصنعونها ويجلبونها بكميات كبيرة من أرجاء المعمورة المعروفة لديهم، فمن الهند كانوا يجلبون الصندل والزعفران، وكانت السفن الهندية تأتي حتى البحرين فتفرغ حمولتها وتأتي القبائل العربية لشراء السلاح والعطور! ومن هنا بالمناسبة جاء اسم "مهند" الذي يطلق على أفضل أنواع السيوف الهندية!
ومن فارس جلبوا بالقوافل أنواعاً مختلفة من الورود لصناعة العطور. ومن جاوة وسومطرة جلبوا مواد عطرية منوعة (طريق الأفاويه). هذا بالإضافة للبخور واللبان من اليمن وعمان، و"طريق البخور" كما نعرف من أقدم طرق التجارة في العالم. أي أن الجزيرة العربية كانت مصدراً للعطور، خاصة ذات الصبغة الدينية، فكان يتم حرق البخور في المعابد الفرعونية واليونانية واليهودية ثم في الكنائس والمساجد، كما نعرف في مصر.
وعندما تُراجع أحاديث السيدة عائشة خاصة تجد فيها تفاصيل دقيقة عن انجذاب النبي الشديد للعطور وللروائح العطرة عامة. ورأيي أن هذا الانجذاب كان هو الطبيعي والمتوقع منه بصفته عربياً أنيقاً محباً للحياة ومقبلاً عليها حتى من قبل أن يكون نبياً مرسلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.