في عام 1095م/488هـ، وفي مناطق جنوب فرنسا، وقف بابا الفاتيكان، وزعيم العالم المسيحي الكاثوليكي الغربي أوربان الثاني صادحاً في الجماهير المتعطشة لهذا اللقاء، يناديها بكل حماسة لكي تنطلق إلى المشرق وتخلص مهد المسيح، وكنيسة القيامة وأماكن الحج المسيحية المقدسة من "دنس الكفار" المسلمين، لقد كان الخطاب شديد التعصب، على الرغم من حرية طريق الحج المسيحي، وكفالة المسلمين لهذه المعابد والكنائس منذ العُهدة العمرية التي وقّعها الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه، حين دخل القدس فاتحاً في عام 15هـ/636م، مع البطريرك المسيحي صفرانيوس.
لقد جاء في الميثاق العُمري لأهل القدس "إيلياء" عهد إسلامي من الطراز الرفيع لكل المسيحيين ومقدساتهم فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصُلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم". كما يذكر ابن جرير الطبري في "تاريخ الرسل والملوك".
صيحة صليبية
بيد أن العالم الغربي الذي كان يمور حقداً على المسلمين، والذي كانت حروب استرداده تؤتي أكلها في الأندلس في ذلك الوقت، إذ كانت طُليطلة الأندلسية عاصمة المعتمد بن عباد، الأمير الشهير، قد استردها ألفونسو ملك قشتالة منذ قليل، لكن منذ سنوات أخرى قريبة أيضاً، وعلى الجانب الآخر من العالم، كان السلاجقة قد سحقوا الإمبراطورية الرومانية الشرقية في موقعة ملاذكرد، وتمكنوا من طرد الروم من الأناضول وتهديد خليج مرمرة، وأضحت القسطنطينية قريبة من سيوفهم وقوتهم، وفي جو ملؤه النشوة من جانب انتصارات النصارى في الأندلس، والغضب من انتصار المسلمين في الأناضول، كان البابا أوربان ينادي في جموع الفلاحين والرعايا الذين كانوا يؤمنون بدور الكنيسة وحبرها الأعظم، ويريدون أن تُغفر خطاياهم، وينتقموا من أولئك "الوثنيين المسلمين" الذين يحتلون القدس.
كان مما جاء في خطبة أوربان الثاني في مجمع كليرمونت: "إني أخاطب الحاضرين، وأعلن لأولئك الغائبين، فضلاً عن أن المسيح يأمر بهذا، أنه سوف يتم غفران ذنوب كل أولئك الذاهبين إلى هناك، إذا ما انتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية، سواء في مسيرتهم على الأرض، أو أثناء عبورهم البحر، أو في خضم قتالهم ضد الوثنيين (يقصد المسلمين)، وهذا الغفران أمنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أعطاني الرب إياها".
وقد لاقت هذه الخطب والدعاية البابوية صداها، لا في فرنسا فقط، بل في كافة قلاع العالم الغربي من ألمانيا والنمسا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا وغيرها، وانطلقت عقبها الحملة الصليبية التي عُرفت باسم "حملة العامة" بحماسة دون هدي ولا دُربة، حتى اصطدمت بقوة السلاجقة في قلب الأناضول فمزّقوهم شرّ ممزّق، وأبادوا قوتهم كأن لم تَغنَ بالأمس، بيد أن الحملة الصليبية الأولى (1095-1102م) تكللت بالاستيطان الصليبي في بلاد الشام من خلال عدة إمارات في الرُّها جنوب الأناضول بين العراق والشام "بلاد الجزيرة"، وأنطاكية على ساحل البحر المتوسط، والقدس، ثم طرابلس الشام، وكامل ما يُعرف اليوم بالساحل الشامي في سوريا ولبنان.
انقسام وتخبط
حين كانت جيوش الصليبيين تمر من غرب ووسط أوروبا في جحافل لا تكاد تنتهي، عابرة القسطنطينية، وهازمة للقوات السلجوقية هذه المرة في قلب الأناضول، ومخترقة بلاد الشام دون مقاومة تذكر، وانتهاء بارتكاب أكبر مجزرة في تاريخ العالم الوسيط في بيت المقدس التي وقع فيها سبعون ألفاً، وقيل تسعون ألف شهيد، حتى كانت خيول الصليبيين تغوص في دمائهم كما وصف مؤرخوهم قبل مؤرخي المسلمين، فإن مشهد العالم الإسلامي في العراق والشام كان مروّعاً تنتابه الانقسامات والمِحن والضغائن والمؤامرات، وهي الثغرة التي تمكن منها الصليبيون واخترقوا هذا العالم الكبير.
في الجنوب، كان الفاطميون يسيطرون على فلسطين وبيت المقدس، وحين سمعوا بتقدم الصليبيين تركوا هذه المناطق وانسحبوا دون مقاومة تذكر، فأصبحت فلسطين والقدس في القلب منها دون مقاومة تُذكر، لا يحميها إلا أسوارها، وصبر أهلها على لأواء العدو، وفي الشمال في بلاد الشام والعراق كان السلاجقة الكبار أبناء وأحفاد طغرل بك وألب أرسلان وملكشاه يتناحرون على كرسي السلطنة، لا سيما بين الأخوين بركياروق ومحمد أبناء ملكشاه من جانب، ثم بين بركياروق وعمه تُتش بن ألب أرسلان، الذي كان يسيطر على الشام من جانب آخر.
وفي ظل هذا الضعف والانقسام تمكن الصليبيون من احتلال أهم المواقع الاستراتيجية في جنوب الأناضول والسواحل الشامية والقدس الشريف، لكن في الوقت عينه، وحين انتهى الصراع السلجوقي- السلجوقي بانتصار السلطان بركياروق واستقرار سلطنته في العراق والشام، والقضاء على خطر أخيه محمد وعمه تُتش، شرع في تعيين "الأتابكة" على الإمارات المهمة، مثل الموصل وحلب ودمشق وغيرها، والأتابك مصطلح تركي الأصل يعني الأمير الوالد أو الأمير الوصي على صغار الأمراء السلاجقة، فكان هذا الأمير العسكري يجمع بين مهمتين؛ الأولى تتلخص في تربية صغار الأمراء السلاجقة في مرحلة فتوتهم ومراهقتهم على القتال وأخلاق الجندية والسياسة، والمهمة الثانية تتمثل في عمله والياً ومديراً لشؤون الولايات التي عُينوا عليها.
قوام الدين كرابوغا أحد مؤسسي مشروع المقاومة
وقد برز في هذه المرحلة التي تزامنت مع مجيء الصليبيين إلى المشرق الإسلامي العديد من هؤلاء الأتابكة الكبار، اشتُهر منهم آق سُنقر الخازن، وآق سنقر البرسقي، وجكرمش، وعماد الدين زنكي وغيرهم، لكن واحداً من أوائل هؤلاء الكبار يكاد يغيب اسمه عن سجل القراء، ولا يعرفون دوره التأسيسي في تهيئة المجال السياسي والعسكري لظهور عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي فيما بعد، ذلك الرجل هو القائد العسكري التركي قوام الدين كرابوغا، أتابك ولاية الموصل السلجوقية فيما بين (489- 495هـ/1096- 1102م).
كانت إمارة الموصل في شمال العراق في زمن الدولة السلجوقية تشمل مساحة أكبر مما هي عليه اليوم، فقد كان يحدها من الغرب والجنوب إمارة الرُّها الصليبية، والرها تُسمى اليوم شانلي أورفا في جنوب تركيا، ويحدها من الشرق أذربيجان وإيران، ومن الشمال سلاجقة الروم والأراتقة التابعون لهم.
شرع كرابوغا بعد استيلائه على الموصل وتأمين تبعيتها للسلاجقة في العراق وإيران في مواجهة الخطر الصليبي الذي كان يتهدد ولايته، بل والمسلمين كافة في الرّها القريبة منه، وكذا في أنطاكية البعيدة عنه على ساحل البحر المتوسط، وحين استولى الصليبيون على أنطاكية في عام 491هـ/1097م، قرر كرابوغا الصلح مع منافسيه من ولاة حلب وحمص والجزيرة وسنجار وغيرها من تلك المناطق، والاتحاد معهم لمواجهة الخطر الصليبي.
يخبرنا المؤرخ الموصلي ابن الأثير الجزري (ت 630هـ/1233م) أن الصليبيين أو "الفرنج" حين سمعوا بهذه الحشود "عظُمت المصيبة عليهم، وخافوا لما هم فيه من الوهن، وقلة الأقوات عندهم". وحين بلغت هذه القوات الإسلامية الكبيرة أنطاكية وشرعت في محاصرتها، دبّ الخلاف فيما بين قادتها لأحقاد قديمة، ولكن الحصار في الوقت عينه كان خانقاً على الصليبين حتى أرسلوا يطلبون الأمان والعودة إلى أوروبا، ليرد عليهم كرابوغا قائلاً: "لا تخرجون إلا بالسيف". وعند هذه المرحلة من اليأس خطرت إلى واحد من رهبانهم حيلة، وكان ذا كلمة مسموعة بينهم، فقال: "إن المسيح عليه السلام كانت له حربة مدفونة بالقسيان الذي بأنطاكية، وهو بناء عظيم، فإن وجدتموها فإنكم تظفرون، وإن لم تجدوها فالهلاك متحقق". كما ينقل العديد من المؤرخين هذا الخبر.
وقد أعملت هذه الحيلة في نفوس الصليبين حين وجدوا هذه الحربة التي خبّأها الراهب؛ إذ ارتفعت أرواحهم المعنوية، وشرعوا يقاومون مقاومة اليائس من الحياة في وقت كانت الخلافات والمؤامرات على أشدها بين المحاصِرين المسلمين، وبدأ الصليبيون في الخروج من أبواب أنطاكية، ونصح الأمراء كرابوغا بضرورة معاجلة هؤلاء الخارجين وإبادتهم قبل اكتمال جموعهم، لكن كرابوغا رأى أن اكتمال عددهم سيؤدي إلى التخلص منهم دفعة واحدة، وكان خطأً عسكرياً كبيراً منه في ظل الروح المعنوية العالية التي تمتع بها الصليبيون حينذاك؛ فقد استطاعوا مواجهة المسلمين أمام أبواب أنطاكية وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وفر الآخرون هرباً بأنفسهم وأموالهم، أو تآمراً وحقداً على كرابوغا ورجاله، الأمر الذي اضطره هو الآخر إلى المغادرة والعودة.
لم تتوقف محاولة الأمير قوام الدين كرابوغا عند مساعدة المسلمين في أنطاكية ومواجهة الصليبيين فيها، بل حاول التخلص أيضاً من الوجود الصليبي في الرُّها القريبة منه، وقد حاصرها بالفعل مع قواته لثلاثة أسابيع كاملة، ولكن استعداد الصليبين، وقوة عتادهم وعددهم، وتأمين احتياجاتهم قد عرقل من إتمام عملية الفتح والانتصار على العدو، ليأتي من بعده عماد الدين زنكي بأكثر من رُبع قرن ويتخلص من هذه الإمارة بالقضاء عليها وسحق الصليبيين فيها سنة 539هـ/1144م.
بعد ست سنوات قضاها في ولاية الموصل، توفي الأمير العسكري قوام الدين كرابوغا في عام 495هـ/1102م، وهو في خدمة السلطان بركياروق بن ملكشاه السلجوقي أثناء توغله في أذربيجان والاستيلاء عليها لصالح سلطانه، وقد أثبت لنا كربوغا في الأعوام القليلة التي تولى فيها إمارة الموصل، شمالي العراق، الدورَ المهم والاستراتيجي لهذه الولاية، والتي أسس فيها لجيش مستعد على الدوام للقتال لصالح استرداد مقدسات المسلمين ومدنهم السليبة.
يخبرنا المؤرخ كمال الدين بن الفوَطي العراقي (ت 723هـ/1323م) في كتابه الموسوعي "مجمع الآداب في معجم الألقاب" عن الأمير كرابوغا، فيقول إنه كان "شجاعاً فاتكاً مجرّباً، قد مارسَ الحروبَ، ونازل الخطوب". وكرابوغا مع هذه الشجاعة والإقدام اللذين اشتُهر بهما، كان له فضل كبير على تاريخ الإسلام فيما بعد؛ إذ حين توفي صديقه آق سنقر التركماني والد عماد الدين زنكي، الذي كان لا يزال ابن عشر سنين؛ قرر تقديراً لصحبة والده والوفاء بحقها أن يتولى تربية ولده زنكي والاهتمام به، ومن ثم رعايته له في الموصل طوال ست سنوات، حتى شهد معه العديد من تلك الوقائع.
ولئن فشل كرابوغا في تحقيق أي انتصارات على الصليبيين، لكن يحسب له تقوية وتعزيز دور إمارة الموصل، وتأهيل جيوشها، وتهيئتها للقيادات العسكرية التي جاءت من بعده، والتي تولاها أفذاذ مثل آق سنقر البرسقي وجكرمش وعماد الدين زنكي، حيث سار هؤلاء الأتابكة الكبار على طريق كرابوغا في السعي لتوحيد مناطق شمال العراق وشمال الشام، وقد نجح عماد الدين زنكي في هذا الأمر نجاحاً كبيراً، وتمكن من سحق أول إمارة صليبية وهي الرها كما نوّهنا، وأسس الدولة الزنكية، ومن رحمها خرجت الدولة الأيوبية التي حررت الأقصى والقدس الشريف، وما كان لزنكي وصلاح الدين أن يحققا هذه الإنجازات لولا الأساس والجهد الذي بذله القادة الذين سبقوهم، وعلى رأسهم الأمير قوام الدين كرابوغا التركي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.