تُظهر الأزمات الدولية المتعاقبة، وفق ادعاء العديد من المراقبين، قدرةَ إسرائيل وفاعليتها بـ"الرقص على رؤوس الأفاعي"، عبر إجادتها الموازنة في علاقاتها وحراكها خلال الأزمات، وتجنب مآزق دبلوماسية قد تتحول إلى سياسة ذات ارتدادات عنيفة. تأتي هذه الفاعلية المدَّعاة رغم حساسية موقع إسرائيل السياسي على الساحة الدولية، وطبيعة تحالفاتها المتناقضة أحياناً، لكن ما مدى صحة هذا الطرح وديمومته في ظل عالم مشتعل؟
الصورة ليست كما تبدو تماماً، فإسرائيل وخلال السنوات الأخيرة بدأت تواجه مآزق دبلوماسية حقيقية في الموازنة بين حلفائها، رغم سعيها لذلك بعد سلسلة انتقادات وملاحقات طالتها أوروبياً إبان الانتفاضة الفلسطينية بعد العام 2000. وفي العام 2013 زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بكين؛ بحثاً عن تنويع تحالفاته والاستفادة من الفرصة التي يوفرها الشرق له للإفلات من إرباكات اقتصادية وسياسية واجهتها تل أبيب في أوروبا، ما قاد لصعود في العلاقات بين الطرفين. لكن، وقفت واشنطن بحدة أمام هذه العلاقة في أكثر من مناسبة، فبعد أن كانت قد وبّخت تل أبيب وعرقلت تعاونها التقني العسكري مع بكين في عامي 1996 و2005، وأجبرتها على الخضوع لنظام رقابة مشترك لصادرات التكنولوجيا العسكرية الحساسة إلى الصين. وطار وزير الخارجية الأمريكي السابق مارك بومبيو في العام 2020 إلى تل أبيب؛ لعرقلة عدة استثمارات صينية في إسرائيل.
وفي هذا الإطار، وقعت إسرائيل في قلب الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، وأجبرت على وقف استثمارات تكنولوجيا الجيل الخامس من شركتي هواوي وZTE الصينيتين، بعد ضغط أمريكي مكثف. وهذه استجابة متوقعة في ظل أن الولايات المتحدة الأمريكية تعد الراعي الحصري لقطاع التكنولوجيا الإسرائيلي، وحليف تل أبيب العضوي.
ومع بروز الأزمة الأوكرانية، حاولت تل أبيب الوقوف على شعرة بين الطرفين، عبر مراوغات في الموقف فرضتها عليها عدة محددات، أولها المكونان الروسي والأوكراني في البنية الاجتماعية الإسرائيلية، وثانيها المكون اليهودي في دولتي الأزمة، وثالثها تشابك مصالح تل أبيب مع موسكو من جهة، ومع الغرب من جهة أخرى. وفي هذا السياق حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، الهروب نحو الوساطة، ما فُسر من قبل كييف على أنه انحياز إلى روسيا، واستُقبل ببرود في موسكو.
بينيت، الذي وصفه البعض بأنه "مبعوث من الغرب"، يضبط حتى اللحظة إيقاع السياسة الإسرائيلية تجاه الأزمة، ويقيد حراك القادة الآخرين بعيداً عن اتجاهات قد تضع تل أبيب في مأزق، لم ينجُ من خيبة أمل زيلينسكي الذي كان يعول على دعم أكبر من إسرائيل التي اكتفت بالدعم الإغاثي والمعنوي. فتل أبيب ما تزال تستقبل ببرود، حميمية توجهات رئيس الوزراء الأوكراني تجاهها، حيث ذكّرَ الإسرائيليين في خطابه بالكنيست بموقف أوكرانيا المبدئي بحماية اليهود قبل 80 عاماً، مطالباً إياهم بردّ الجميل، بل ذهب به الأمر إلى اعتبار أن إسرائيل وأوكرانيا تواجهان التهديد ذاته.
ترى كييف أن وساطة إسرائيل منحازة، إذ أشار زيلينكسي في الخطاب ذاته إلى رفضه الوساطة قائلاً: "يمكن التوسط بين الدول، لكن ليس بين الخير والشر"، وهذا ما دفع نائبة رئيس الوزراء الأوكراني، إيرينا فيريشتشوك، إلى وصف الوساطة بـ"محاولة إسرائيلية لإقناع أوكرانيا بالاستسلام بشرف". لم تقتصر الانتقادات لتل أبيب على كييف، إذ انتقدت الولايات المتحدة عدم تصويت تل أبيب لصالح دعم القرار الأممي الأول بإدانة روسيا وعدم الالتحاق بركب العقوبات، مطالبةً إياها بمواقف أكثر وضوحاً.
لكن تسعى تل أبيب لتثبيت هذا التوازن المرهق، مدركةً أن التفاتها غرباً يعني منح موسكو القدرة على إيلامها عبر الجبهة السورية من جهة، وعبر بوابات ديموغرافية واقتصادية عديدة وفرص متصاعدة من جهة أخرى، فعلى سبيل المثال تتوقع إسرائيل موجة جديدة من الهجرة تقود 200 ألف يهودي إليها جراء الأزمة، يشكل جلهم قوة اقتصادية هائلة تدفع بالاقتصاد الإسرائيلي إلى الأمام. كما شكلت إسرائيل ملاذاً مفضلاً لرجال الأعمال الروس للهروب من مقصلة العقوبات الغربية، ولرؤوس الأموال الأوكرانية من الحرب.
إن طبقة رجال الأعمال الروس، التي ترى أن إسرائيل وجهة ملائمة حالياً، هم بالمجمل الأقرب إلى الدولة، أهمهم مالك نادي تشيلسي البريطاني رومان أبراموفيتش الذي حصل على الجنسية الإسرائيلية، حاله حال العشرات من الأوليغارشية الروسية. كما أن العديد من رجال الأعمال الروس متبرعون جيدون للمشاريع الصهيونية الحيوية؛ ما دفع إحدى المؤسسات الصهيونية إلى طلب استثناء هؤلاء المتبرعين من أية عقوبات متوقعة في المستقبل. لكن في المقابل لم تستجب تل أبيب لطلب رئيس الوزراء الأوكراني معاقبة رؤوس الأموال الروسية في إسرائيل.
وإذا كانت إسرائيل تخشى من روسيا أمنياً، عبر سوريا، واقتصادياً، عبر الأوليغارشية الهاربة من العقوبات، فإنها تخشى أيضاً من الولايات المتحدة بشكل أكبر، والتي ترى في العلاقة مع تل أبيب تحالفاً عضوياً لا يمكن خلخلته لصالح أي طرف.
أصبحت إسرائيل اليوم ذات أهمية أكبر لواشنطن بالشرق الأوسط في ظل التفات دول الخليج المركزية إلى الشرق وفتح قنوات شراكة استراتيجية مع الصين، وعليه فسيكون المطلوب من تل أبيب حزماً أكثر وصراحة أكبر في أزمة قد تتحول إلى نزاع عميق يغير شكل النظام الدولي بشكل تام، خاصةً أن العلاقات الإسرائيلية الأمريكية مرشحة لتوتر إضافي في ظل الاختلاف الحاد حول الملف الإيراني.
إذن، لا يمكن اعتبار الأزمة الجارية إلا رأس جبل الجليد في أزمات وتوترات متلاحقة، طبيعية في ظل التحول بالعلاقات الدولية. إن كانت لعبة الموازنة المعقدة ممكنة حتى اللحظة بالنسبة لتل أبيب، فإن طول أمد الأزمة سيقود لمزيد من التعقيدات وسيضع إسرائيل أمام حسم إجباري لمواقفها.
إن الأزمة الأوكرانية الحالية مفصلية في شكل وبنية النظام الدولي الآخذ بالانزياح باتجاه تعددية قطبية حادة، ما يعني تآكلاً متصاعداً أمام دول المساحات الرمادية في هامش المناورة، فكيف سيكون الحال إذن مع إسرائيل التي ترى نفسها غربية التكوين والتحالف والانتماء؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.