السعودية للغرب: لي في الأمر نصيب
في الثاني من مارس/آذار الجاري، وبعد أقل من أسبوع على بدء اجتياح الجيش الروسي لأوكرانيا، عُقِدَ لقاء على مستوى وزراء نفط "أوبك بلس"، تجاهلوا جميعهم الحرب على أوكرانيا، وأكّدوا تمسكهم بسياسة المنظمة حول الإنتاج، التي تم التوافق عليها مع موسكو، في موقف عزز التموضع الروسي في مواجهة الغرب.
وبتاريخ 15 مارس/آذار الجاري، أوردت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية خبراً سارعت وسائل إعلام سعودية إلى نفيه، وجاء فيه أنّ المملكة تعتزم دراسة تسعير النفط الخام المباع للصين باليوان الصيني. ولأنّ بكين تشتري أكثر من 25% من النفط الذي تصدّره الرياض، يُخشى من أنّ خطوة من هذا القبيل -إذا ما تُرجمت عملياً- قادرة على أن تقلّص هيمنة الدولار الأمريكي المطلقة على سوق النفط العالمية، ناهيك عن أنّها تمثّل تحوّلاً محفوفاً بالمخاطر على سياسة السعودية، أكبر مصدر للنفط الخام في العالم نحو آسيا.
العلاقات الأمريكية-السعودية: ولادة في إطار الأمن الاستراتيجي "للطاقة الأمريكية"
دخلت العلاقات الأمريكية-السعودية منذ اتفاق الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية، والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في العام ١٩٤٥ في إطار الأمن الاستراتيجي "للطاقة الأمريكية". وما لبثت هذه العلاقة أن تطوّرت مع زيارة الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود في العام ١٩٥٧ إلى واشنطن، واتفاقه مع الرئيس دوايت أيزنهاور على رسم دور المملكة "السياسي الإقليمي" في الشرق الأوسط. وهو دورٌ إقليمي لم يتراجع إلّا في أواخر عهد الرئيس باراك أوباما وخلال حقبة خلفه دونالد ترامب.
تراجع من أوباما وصولاً إلى ترامب
مع ترامب بدا من حيث الشكل أن الرئيس الجمهوري يحدث نقلة في العلاقات الأمريكية-السعودية، لكن شخصنة العلاقات مع الدول، ومنها المملكة، والتعامل معها من موقع رجل الأعمال لا رئيس دولة كبرى، أدى إلى تراجع حضور المملكة الإقليمي والدولي، إلى أن جاءت الإدارة الجديدة بقيادة الديمقراطي جو بايدن، وقررت إعادة تصويب العلاقات الثنائية من جهة، وإعادة الاعتبار للمؤسسات من جهة ثانية. في المحصلة بدأنا نشهد عودة المملكة إلى لعب دورها التقليدي لمواكبة التحولات الأمريكية.
وكان جلياً أيضاً أنّ بايدن، وفور انتخابه، يريد العودة إلى الاتفاق النووي الذي وقّعه أوباما في العام ٢٠١٥ احتراماً لمصداقية الولايات المتحدة الأمريكية أولاً، وسعياً لاحتواء غير مضمون النتائج لإيران وانفلاشها الإقليمي، وكذلك ارتباطاتها بالشرق الصيني والروسي ثانياً. وبالتوازي كانت الرغبة الأمريكية معلنة في الابتعاد عن التورط أكثر في نزاعات الشرق الأوسط، وتخفيف الحضور العسكري في هذه المنطقة، كما في أفغانستان، التي انسحبت منها القوات الأمريكية بعد أشهر على تنصيب بايدن، وبعد عشرين عاماً من دخولها.
تحوّل كبير بعد اجتياح الكويت
مع اجتياح الرئيس العراقي صدام حسين للكويت، واندلاع حرب الخليج الأولى في العام ١٩٩١، تحوّلت دول مجلس التعاون الخليجي قاطبة إلى محميات عسكرية أمريكية، إذ تستضيف قاعدة العديد في قطر القيادة الأمريكية الوسطى، أمّا البحرين فتستضيف الأسطول الخامس. كما تنتشر في كلّ من الإمارات وعمان والكويت والعراق والسعودية قواعد عسكرية أمريكية.
بايدن يفرمل الاندفاعة الأمريكية أكثر
في أعقاب الهجوم الحوثي على منشآت أرامكو في بقيق وهجرة خريص، في سبتمبر/أيلول من العام 2019، أدلى ترامب بموقف دفع المملكة إلى إعادة النظر في طريقة تعاطيها مع الأمريكيين. وآنذاك امتنعت الولايات المتحدة عن تطبيق معاهدة الدفاع المشترك، إذ أكّد ترامب أنّه لم يَعِد الرياض بحمايتها وأنّه يجب عليها أن تدفع مقابل الحماية. هذا التصريح سرّع وتيرة تراجع العلاقات الأمريكية-السعودية.
وانطلاقاً من وعوده الانتخابية وأدائه اليوم، يمكن القول إنّ بايدن يسير على نهج أوباما وترامب. فخلال حملته الانتخابية، تعهّد بايدن باتخاذ إجراءات أكثر صرامة تجاه السعودية، والتي وصفها بـ"الدولة المنبوذة دولياً" بسبب قضية قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي. وبعد انتخابه أعلن بايدن عن نهاية الدعم العسكري الأمريكي للحرب التي تقودها السعودية في اليمن، ووعد بمراجعة صفقات الأسلحة للمملكة، كما وجمّد صفقة طائرات "إف ٣٥" للإمارات.
الحرب الروسية-الأوكرانية تكشف التصدّعات
عكست الحرب الروسية-الأوكرانية الخلافات بين الولايات المتحدة وشركائها الخليجيين. ومع أنّ الخلافات والتوترات في بعض أوجه العلاقة بين الجانبين كانت موجودة من قبل، فإن هذه الحرب زادتها وسلَّطَت الأضواء عليها، وأضافت مزيداً من عوامل التباين في زوايا النظر والأولويات والمصالح. في المقابل، يمكن الحديث عن فرصة مواتية لإعادة ضبط العلاقات الخليجية-الأمريكية وتجديدها، على وَقْع تداعيات الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها وإفرازاتها.
السعودية والخليج.. موقف القوي
قبل اندلاع حرب روسيا على أوكرانيا، وفي مطلع شهر فبراير/شباط، تداول بايدن مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز بموضوع زيادة الإنتاج النفطي إذا ما اندلعت تلك الحرب، وبعدها زار منسق شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي، بريت ماكغروك المملكة للسبب عينه، من دون أن يتمكن الرجلان من إقناع السعوديين بزيادة الإنتاج.
وبعد اندلاع الحرب وبلوغ سعر برميل النفط مستويات قياسية، يواصل القادة الغربيون اليوم زيارة القادة الخليجيين سعياً إلى التوصل إلى اتفاقات تضبط الأسعار، في ظل الاعتماد الأوروبي على إمدادات الطاقة الروسية، وسط المخاوف من موجة ركود عالمية لا تُحمد عقباها بعد جائحة كورونا.
وبعد تأكيد الرياض وأبوظبي اللتيْن تملكان فائضاً في طاقة إنتاج النفط التزامها بمندرجات اتفاق "أوبك بلس"، زار رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الأربعاء الإمارات والسعودية. استقبال جونسون كان باهتاً، ولعل هذا كان مقصوداً، ومثل بايدن عاد رئيس الوزراء البريطاني أدراجه خائباً، إذ لم يفلح في الحصول على تعهدات من عضويْ "أوبك بلس". وبعدها أجرى رئيس وزراء اليابان، فوميو كيشيدا، اتصالاً للغرض عينه. ورغم الخيبات المتتالية لا يبدو أنّ الغرب قد يئس من الإلحاح على الخليج، فسيتوجه وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، اليوم السبت، إلى الدوحة في إطار جولة تشمل الإمارات أيضاً.
يتناسى الغرب الموقف المتخاذل عن دعم دول الخليج في وجه إيران، ويواصل قادته مساعيهم، متجاهلين حقيقة أنّ العلاقات الخليجية مع كل من روسيا والصين قد قطعت شوطاً كبيراً. في الواقع، كان القادة الغربيون وراء اتخاذ القيادات الخليجية، وعلى رأسها السعودية، قرار تنويع علاقاتها والابتعاد عن التحالفات الحصرية مع واشنطن، بل حماية نفسها من التهديدات الخارجية بنفسها.
ففي ديسمبر/كانون الأول الفائت، كشفت شبكة "سي إن إن" عن بناء السعودية منشآت لتصنيع الصواريخ الباليستية بمساعدة الصين. وفي العام ٢٠١٦، وعند لقاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على هامش قمة سان بطرسبورغ، أثار ولي العهد موضوع بناء مفاعلات نووية لتوليد الطاقة بتقنيات روسية. ومن جانبها، امتنعت الإمارات عن التصويت الشهر المنصرم على قرار يندد بالغزو الروسي لأوكرانيا كانت قد صاغته الولايات المتحدة في مجلس الأمن.
لا عودة إلى الوراء
الموقف الخليجي واضح إذن، لا عودة مجانية إلى الوراء، وتحالف "أوبك بلس" مع موسكو سيظل قائماً، حتى يقدّم الغرب عرضاً مقبولاً لدول الخليج يقوم على مبادئ ثلاثة:
ينطوي الأول على العمل على وقف حرب اليمن، والثاني على إرساء توازن مع إيران، أمّا الثالث فعلى قبول شرعية ولي العهد في السعودية وفي الإمارات أيضاً، والتعامل معهما كونهما حكاماً مستقبليين للبلديْن الأكبر اقتصاداً في المنطقة العربية.
وفي لعبة المد والجزر هذه، تدرك الدول الخليجية أنّ الحرب الروسية-الأوكرانية لا تعنيها مباشرة، فهذه المرة لا يدور الصراع في الشرق الأوسط، بل في أوروبا وعلى أرض بعيدة من دون أن يشكّل الإسلام عاملاً في الحرب، ولذلك تجد الدول الخليجية نفسها قادرة على المناورة بهامش مقبول، ولو أنّه محدود بالزمان والقدرة.
تتجه الأنظار إلى قطر، التي صنفتها الولايات المتحدة حليفاً أساسياً من خارج حلف شمال الأطلسي-الناتو، كي تؤازر دول الخليج في إيجاد المخارج لعودة المياه إلى مجاريها بين الغرب والخليج، بما يحفظ المكاسب لجميع الأطراف. وهنا يبقى التضافر الخليجي إلزامياً على قاعدة أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض أو الأسود، لا فرق!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.