على بُعد أميال قليلة من مدينة نابولي، أكبر مدن جنوب إيطاليا، وبينما كان مزارع إيطالي يعمل في حقله ضرب الأرض بفأسه بقوة فاصطدمت الفأس بحجر ما، حبس أنفاسه بلهفة وترقب، وتطلَّع إلى الحجر الذي برز جزءٌ منه فوجده تمثالاً. سنة ١٧٤٨ فتح هذا المزارع الطريق لاكتشاف أنقاض مدينتي "بومبي" و"هيركولانيوم"، وهما من مدن الرومان القديمة، دمرهما بركان فيزوف سنة ٧٩م.
يُصنف جبل فيزوف على أنه أحد أخطر البراكين في العالم، يذكر العلماء أن عمره يقدر بمئات الآلاف من السنين، ثار أكثر من ٥٠ مرة، منها ثوران عنيف غير عادي يُعرف باسم "ثوران أفيلينو"، وهو واحد من أكبر الانفجارات في عصور ما قبل التاريخ، دمر كل ما هو على بعد ١٥ ميلاً من الجبل.
يعد ثوران عام ٧٩م هو أكثر الثورات البركانية تدميراً في تاريخ أوروبا، ومنذ ما يقرب من ١٧٠٠ سنة لم تكتشف أسرار وآثار هذا الحدث التاريخي المميت قبل اكتشاف الأنقاض بالمصادفة.
حيث طُمرت المدينتان بسكانهما تحت الغبار البركاني، ليتجمد سكانهما في الأوضاع نفسها التي كانوا عليها قبل ثورة البركان. يقال إن مدينة "بومبي" وحدها كانت تضم حوالي ٢٠ ألف نسمة، وكانت مدينة أرستقراطية ومزدهرة، يقطنها الأغنياء، وفيها القصور والمعابد والمسارح والحمامات. كانت شوارعها مليئة بالحيوية بمتاجر الحرفيين والتجار، وكان العديد من مواطنيها يعيشون في فيلات فاخرة. وكانت بومبي والأراضي المحيطة بها أيضاً منتجعاً لقضاء العطلات.
هناك القليل من الكتابات المتاحة عن هذا الانفجار، لعل أشهرها ما كتبه بلينيوس الأصغر، وترجع أهمية ما كتبه أنه شاهد عيان، وهو ابن شقيق العالم والمؤرخ بلينيوس الأكبر. كان بلينيوس الأصغر وقتها يقيم في منزل عمه، وكان يبلغ من العمر ١٨ عاماً فقط عندما حدثت ثار فيزوف أمام عينيه.
بلينيوس الأكبر رجل دولة روماني، تقلد عدة مناصب عـسكرية، له العديد من المؤلفات في التاريخ والأدب والأبحاث اللغوية، توفي بسبب بركان فيزوف. ترك بلينيوس الأصغر في رسالة له وصفاً مؤثراً لموت عمه المأساوي.
ويصف ثورة البركان قائلاً: "حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر، أشارت والدتي إلى سحابة ذات حجم ومظهر غريب تشكلت للتو. من تلك المسافة لم يكن واضحاً من أي جبل كانت السحابة ترتفع، لأننا كنا ننظر من بعيد، فقط في وقت لاحق علمنا أن الجبل كان فيزوف، كان شكلها أشبه بشجرة صنوبر أكثر من أي شجرة أخرى، لأنها ارتفعت عالياً كنوع من الجذع ثم انقسمت إلى أغصان".
كنا نسمع صراخ نساء، وبكاء أطفال، وصراخ رجال، كان البعض ينادون والديهم أو أطفالهم أو زوجاتهم، ويحاولون التعرف عليهم من خلال أصواتهم.
وكان بعض الناس خائفين جداً من الموت، لدرجة أنهم صلّوا من أجل الموت. توسل الكثيرون لمساعدة الآلهة، لكنهم تخيلوا أنه لم تعد هناك آلهة متبقية، وأن الليلة الأبدية الأخيرة قد حلت على العالم.
كما ذكر أن عمه بلينيوس الأكبر حاول إنقاذ أكبر عدد ممكن من الهاربين من ثورة البركان باستخدام قارب، وأن قطعاً من الصخور كانت تتساقط من السماء مع الرماد، والتي كانت كثيرة لدرجة أن الناس كانوا يغرقون في الشوارع، بينما تراكمت أطنان من الحطام على الشواطئ، ما جعل الملاحة مهمة مستحيلة، ومن لم يمت حرقاً مات اختناقاً، كان بلينيوس الأصغر محظوظاً جداً؛ لأنه نجح في البقاء على قيد الحياة.
اكتشفت الحفريات العديد من التماثيل، واللوحات البرونزية والرخامية، والأواني، والمجوهرات، والعملات المعدنية، والأعمال الفنية، وغير ذلك من القطع الأثرية. وكُشف عن النقوش التي كانت تزين الجدران، كانت الحمم البركانية والرماد نوعاً من الغطاء الذي سمح للمدينة بالحفاظ على نفسها على مر القرون، والحماية من العوامل الجوية، لهذا ظلت المدينة سليمة.
كما تم العثور على الآلاف من الرفات البشرية على وضعيتها لحظة فاجأها الموت، حاول العلماء من خلال هذه الرفات معرفة أسرار ما حدث، ومنهم بيير باولو بيتروني، الباحث في جامعة فيديريكو في نابولي، والذي استنتج أن درجة حرارة انفجار بركان فيزوف كانت هائلة، لدرجة أنها أدت إلى تبخر السوائل الجسدية وفجرت جماجم بعض السكان.
ومن أغرب الاكتشافات أن دماغ أحد الضحايا عندما تعرض لتسخين شديد الحرارة فجأة، تحول إلى زجاج أسود لامع، يشير فحص الأخشاب المتفحمة الموجودة بالقرب من جسم الرجل إلى أن الحرارة قد تكون وصلت إلى 520 درجة مئوية! وتم إثبات أن شظايا الزجاج السوداء كانت ذات يوم دماغاً بشرياً عن طريق تحديد بروتينات معينة موجودة عادة في أنسجة المخ، والتي لم تكن موجودة في الرماد المجاور.
من أعظم الاكتشافات كانت "برديات هيركولانيوم"، التي اكتُشفت داخل قصر في مدينة هيركولانيوم في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، حيث تم العثور على كثير من لفائف البردي المتفحمة والمتحجرة، والتي تقدر بحوالي ١٣٢٠ بردية. كتبت البرديات باللغتين اليونانية واللاتينية، منها موضوعات في الفلسفة الإغريقية القديمة، والعديد من أعمال الفيلسوف اليوناني القديم أبيقور.
قام العلماء بالعديد من الحفائر لاستخراج لفائف برديات هيركولانيوم، واللفائف المكتشفة كانت في حالة سيئة جداً، متفحمة ولها لون يتراوح ما بين البيج الغامق والأسود، وكانت عبارة عن كتل من اللفائف البردية الملتصقة ببعضها، قد تكون ٥ أو ٦ لفافات.
ألقيت بعض هذه اللفائف لحظة العثور عليها ضمن المواد الناتجة عن الحفر، حيث اعتقد عمال الحفر أنها عبارة عن قطع من الخشب المتكربن، أو قماش ملفـوف أو شباك صيد، وبتمييز هذه البرديات المكربنة ظهرت صعوبة فردها من الناحية التقنية وعملية التكربن، جعلت الكثير من البرديات مفتتة وهشة وبعضها الآخر تحجر تماماً.
أما عن أسباب حفظ البرديات فيذكر الدكتور عبد اللطيف أفندي في كتابه "البردي" أنه حتى اليوم لا يمكن تحديد ما إذا كانت حـالات التكربن المختلفة (Carbonization)، ودرجات الألوان المختلفة لبرديات هيركولانيوم قـد نتجت عن عمل حرارة المواد البركانية في ثورة بركان فيزوف، أم ترجع لعملـية تحلل تدريجية (Gradual Decomposition)، أم لتباين درجة الحرارة الناتج عن النقل من مكان لآخر داخل القصر الذي عثر بداخله على البرديات، أم أن هناك عوامل أخرى لعبت دورها.
وترتبط الأسباب التي أدت إلى تكربن لفائف هيركولانيوم بظروف دفن المدينة تحت الركام لسنوات طوال، وقد أثار أصل الرواسب التي طمرت المدينة تحتها جدلاً بين الباحثين والدارسين.
فحسب رأى البعض "دفنت المدينة تحت أكوام من الرماد، وفي رأي البعض الآخر فقد دفنت تحت سيول من المواد البركانية، في حين يرى آخرون أن أصل الرواسب هو كتلة سائلة سببتها حركة الرواسب الـناتجة عن أمطار قوية، والتي هبطت على المدينة في شكل سيل قوي من الطين دفن المدينة تحته تماماً". انتهى.
حالياً يزور السياح مدينة نابولي لتسلق جبل فيزوف، ومشاهدة حفرته البركانية التي تطل على شواطئ خليج نابولي. وكذلك لزيارة أنقاض بومبي وهيركولانيوم، حيث كشفت الحفريات عن العديد من المنازل والمتاجر والمعابد والحمامات، ومن أشهر الآثار الباقية أنقاض معبد أبولو في بومبي. ويحظر على الأطفال دخول بعض مناطق المدينة القديمة الباقية أطلالها، بسبب الرسومات الإباحية على بعض جدرانها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.