في كتاب "في سبيل الله والنازية: النازيون والإسلام في الحرب العالمية الثانية"، للمؤلف الإيراني الأصل الألماني الجنسية "ديفيد معتدل"، يتعرض الكاتب بشكل توثيقي للعلاقة بين الدين والسياسة والحرب، من خلال محاولة ألمانيا النازية توظيف الدين الإسلامي والمسلمين، وحشدهم ضد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
وهو يورد نصاً كتبه "جوبلز"، وزير الدعاية النازية في يومياته عام 1942 قائلاً: "من المثير الإشارة إلى أهمية الاستغلال البارع للمسألة الدينية". والكتاب يورد أيضاً كيف حاول الحلفاء مثل بريطانيا وأمريكا توظيف الدين الإسلامي لصالحهم وكسب الحرب، لهذا نرى أن الدين والحشد من خلاله له أهمية في العلاقات الدولية، وهكذا نلمح الدور الديني المتجدد والمؤثر في العلاقات السياسية بين الدول متى تأزمت الأمور قديماً وحديثاً.
وعلى وقع الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة حالياً ظهر توظيف الدين باكراً على سطح الأزمة، وجرى توظيفه بصورة واسعة على جانبي الأزمة في كل من روسيا وأكرانيا، حتى إن هناك من يحذر من خطر تحول الحرب إلى صراع ديني يجتاح أوروبا.
وهذا التوظيف جاء على خلفية الخلافات بين الكنائس الأرثوذوكسية في كلتا الدولتين، والذى جاء على خلفية انفصال كنيسة أوكرانيا عن كنيسة روسيا في العام 2018، ولم يقف هذا الانقسام عند هذا الحد، بل انقسمت الكنيسة الأوكرانية إلى قسمين، قسم وهو الأصغر ظل تابعاً للكنيسة الروسية، والأكبر ظل تابعاً للكنيسة الأوكرانية، وظهر أن هناك خلافاً عميقاً بين الكنيستين، حتى ما إن اجتاحت القوات الروسية الأراضي الأوكرانية، فبراير/شباط 2022، حتى أدانتها الكنيسة الأوكرانية الأرثوذوكسية، ومعها كنائس أوروبا وأمريكا، بما فيها الكنائس الكاثوليكية والإنجيلية.
وهو الأمر الذي لفت الأنظار ناحية الدور الديني في الصراع، وأن هدف الرئيس "بوتين" من بين أهداف أخرى هو توحيد الكنيستين الروسية والأوكرانية تحت السيادة الروسية، وأنه يريد أن يحتفل بعيد الفصح في العاصمة الأوكرانية (موقع بي بي سي)، وإعلانه توحيد الأرثوذوكسية الشرقية تحت الراية الروسية.
من يتابع سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي يحن فيها إلى استعادة ماضي الاتحاد السوفييتى السابق وحدوده، نجد أنه ابتعد عن التيارات السياسية، وأعطى للدين دوراً واضحاً في السياسة والقوات المسلحة، وجعل من الكنيسة الأرثوذكسية سيفه ودرعه لإحياء القومية الروسية لدعم جهوده السياسية، وفي سبيله لذلك دعم الكنيسة مادياً ومعنوياً وسياسياً، وأعطاها دوراً متنامياً في الحياة العامة وفي الجيش، وهو ما يفسر إطلاق البطريرك "كيريل" وصف "معجزة الله" على الرئيس "بوتين"، وكذلك دعمه للحرب دفاعاً عن "الحدود المقدسة لروسيا".
إن مدينة "كييف"، عاصمة أوكرانيا، تعتبر بمثابة القدس بالنسبة للمسيحيين الروس، وذلك لأنها كانت مهد المسيحية في الشرق الأوروبي، على يد أمير كييف "فلاديمير الأول"، وهو من نَشرَ المسيحية في روسيا، وسعى لبناء إمبراطورية تضم روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، وكانت عنواناً للقومية الروسية.
لهذا عندما انفصلت كنيسة أوكرانيا عن الكنيسة الروسية، واعترف البطريرك، رئيس أساقفة القسطنطينية وروما الجديدة "برثلماس" -المقر بإسطنبول- في العام 2019 رسمياً بإنشاء كنيسة أوكرانية مستقلة، ونال هذا الاعتراف تأييداً من كنائس القسطنطينية والإسكندرية واليونان وقبرص، وتم استغلال ذلك في الخلاف السياسي بين روسيا وأوكرانيا من قبل الرئيس الأوكراني، هنا اعتبر الروس ذلك بمثابة تقويض للقومية الروسية، وأغضب الكنيسة الروسية، التي اعتبرت أن ذلك انتقاص منها ومن دورها.
وعلى الجهة الأخرى، اعتبر الرئيس الأوكراني السابق "بترو يوروشينكو" أن "هذا الانفصال انتصار للشعب المؤمن في أوكرانيا على شياطين موسكو".
وهكذا تداخلت السياسة مع الدين، وجرى توظيف الأطماع السياسية والدينية على خلفية استعادة أمجاد إمبراطورية سوفييتية، وسط انقسام كنسي بين أتباع المذهب الأرثوذوكسي على من له الزعامة في الشرق الأوروبي، وسط دعم مذهبي كاثوليكي وإنجيلي غربي، يرفض سلوك "بوتين"، الذي يستغل الدين لإحياء أمجاد إمبراطورية روسية بخلفية دينية، تثير المخاوف من تجدد صراع ديني قديم في أوروبا.
وهذا ما جعل دعوة الرئيس الأوكراني لتجنيد الأجانب للدفاع عن أوكرانيا تلقى آذاناً مصغية من قبل اليمين والنازيين الجدد في أوروبا، والذين يعتبرون "بوتين" شيوعياً بغلاف ديني.
في "نيويورك تايمز" يقول الكاتب "مايكل خوداركوفسكي"، في يناير/كانون الثاني 2019: "كأن الحرب في أوكرانيا لا يكفيها الصراع الديني الأرثوذوكسي، لتزيد احتمالات الحرب الدينية بين طوائف المسيحية في أوروبا".
وهكذا أشعل "معجزة الله بوتين" صراعاً دينياً كان مكتوماً من أجل طموحات سياسية وإمبراطورية، وجعل من مشهد مباركة القساوسة وهي تبارك الجنود والطائرات والصواريخ المنطلقة في حربها ضد أوكرانيا حافزاً للحشد القومي والديني، ليدعمه ويجعله في نظر القوميين الروس بمثابة الأمير "فلاديمير الأول"، الذى أراد إنشاء إمبراطورية تضم روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، تكون نداً لأوروبا الغربية، وبناء إمبراطورية روسية جديدة، ولكنه نسي أن الصراع الديني عندما يخرج من عقاله فإنه سيكون بمثابة النار التي تحرق الجميع، ولن يكون ميدانها أوروبا فقط، بل كل مكان تتواجد فيه المذاهب الدينية المسيحية، سواء في الشرق أو الغرب.
بوتين ليس متديّناً بالشكل الكهنوتي، ولكنه مثل كل الزعماء الذين يريدون الانفراد بالسلطة، ويستخدمون الدين ضد خصومهم السياسيين في الداخل، عبر استدعاء العامل الديني في الخطاب السياسي، لمغازلة الشعب والمؤسسة الدينية، عبر بناء دُور العبادة وإعطاء دور للتعليم الديني في الحياة العامة، وكذلك لإثارة الحماس لتبرير طموحاته الشخصية ومؤسساته العسكرية في الخارج.
ونهايةً، أوكرانيا يجب ألّا تتحول لأفغانستان أخرى يُستعمل فيها الدين لتصفية الحسابات بين الدول الأوروبية، لأنها ستتحول لما يشبه الطوفان، الذي سيطال عموم المشرق العربي، المشبع أصلاً بخلافات دينية كبيرة. وسينتهي "الاستغلال البارع للمسألة الدينية" كما قال "جوبلز" إلى كارثة حقيقية تطال العالم كله، بحرب عالمية لا تبقي ولا تذر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.