في الأسابيع الأخيرة، عاد الحديث عن مستقبل الإخوان المسلمين ليتصدر النقاش العام. النقاشات هذه المرة حملت قدراً معقولاً من الرشادة والموضوعية، ولم تقتصر فقط على داخل مصر، ولكن امتدت إلى خارجها أيضاً. ففي العاشر من شهر مارس/آذار الجاري نشر ستيفن كوك مقالاً في مجلة فورن بوليسي الأمريكية موضوعه هو مستقبل الإسلام السياسي في المنطقة.
كوك هو باحث مشهور بخبرته في الشؤون العربية، وله تاريخ من التوقعات التي ثبت صدقها. فبالإضافة إلى كتابه الشهير "تحكم لكنها لا تدير: التطورات العسكرية والسياسية في مصر والجزائر وتركيا" والذي ركز فيه على أدوار المؤسسة العسكرية في الحكم والإدارة في ثلاث من دول المنطقة، فإن تقريره الذي نشر في أغسطس/آب 2009 في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية بعنوان "الاضطراب السياسي في مصر" كان واحداً من تقديراته التي حملت مقداراً عالياً من الصواب. ذكر كوك في هذا التقرير أن مصر بدأت عملية انتقال سياسي وقت كتابة التقرير في النصف الثاني من العام 2009، وأن الشهور التالية سوف تكون حاسمة في تحديد مصير هذا الانتقال. وتوقع في هذا التقرير أن مصر قد تشهد سيناريو من أحد سيناريوهين:
الأول: أن يتدخل الجيش بشكل مباشر بسبب مشاكل في انتقال السلطة على طريقة "انقلاب القصر".
والثاني: أن يصل الإسلاميون إلى السلطة من خلال تعظيم القوة السياسية لهم.
هل للإخوان المسلمين مستقبل سياسي؟
آخر مقالات كوك الذي ذكرناه في بداية هذا المقال يقول فيه إنه من الخطأ تصور أن الإسلام السياسي قد انتهى. فالوصول إلى مثل هذه الاستنتاجات لدى السياسيين ومتخذي القرار في الولايات المتحدة الأمريكية سوف يكون استنتاجاً خاطئاً. فطالما ظلت الأسباب التي أدت إلى ظهور تيارات الإسلام السياسي موجودة فإن فرص عودتها في المستقبل مرة أخرى تظل مرتفعة؛ بل إنها هذه المرة قد تكون أكثر تشدداً وتطرفاً من المرات السابقة.
لكن كوك لم يكن الوحيد الذي تساءل عن مستقبل حركات الإسلام السياسي. فقبله بأسابيع افتتح الصحفي المصري أنور الهواري سلسلة من المقالات عن الإخوان المسلمين بدأها بسؤال أساسي: هل للإخوان مستقبل سياسي؟
ومن خلال مقالات متعددة تناول فيها تاريخ الإخوان ومشكلاتها من وجهة نظره توصل إلى استنتاج مفاده أنه من الوارد جداً أن يعود الإخوان على المدى القريب كفاعل مؤثر في المشهد السياسي، لكن على المدى البعيد، فإن هذه العودة لن تختلف عن دورات الإخوان السابقة التي تبدأ بتمدد وانتشار داخل المجتمع لتنتهي بصدام مع السلطة في دورات متتالية لا تتوقف منذ تأسيس الجماعة.
الكاتب عبد العظيم حماد سيلتقط خيط السؤال ليقدم بدلاً من إجابة مباشرة على السؤال بطريقة نعم أو لا تحليلاً يتناول العوامل التي يمكن أن تساهم في تشكيل إجابة هذا السؤال.
والعوامل التي ذكرها حماد هي التطورات الداخلية في مصر، التطورات الإقليمية، التطورات داخل جماعة الإخوان المسلمين، وأخيراً، المصالح الأمريكية والأوروبية في المنطقة. هذه العوامل يمكن أن تتفاعل مع بعضها البعض بأشكال مختلفة، بل يمكن لكل عامل منها أن يسير في مسارات متباينة بحيث يمكن أن تؤدي في النهاية إلى تشكيل إجابة السؤال الأساسي عن مستقبل الإخوان المسلمين السياسي.
جزء من التاريخ
قبل كتابة هذه المقالات، كنت قد أنهيت كتابة دراسة نشرت في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي حول أسباب فشل الإخوان في إدارة التغيير السياسي في مصر. الدراسة كانت جزءاً من مشروع بحثي يتناول بالتقييم الحركات السياسية في مصر متخذاً من الإخوان المسلمين مثالاً وحالة دراسية لهذا التقييم. بخصوص مستقبل الجماعة السياسي، ففي الجزء الأخير من الدراسة وصلت لاستنتاج مفاده "أن الأدوار السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر هي جزء من التاريخ، ولن تكون جزءاً من المستقبل".
هذا الاستنتاج كان محور نقاشات كثيرة بيني وبين عدد من الباحثين والقراء والمهتمين بالشأن العام الذين أرسلوا لي عدداً من الملاحظات والتعليقات على الورقة كان هذا الاستنتاج هو القاسم الأكبر فيما بينها. وكان واحد من ردودي المتكررة على هذه الملاحظة أني أعيد التذكير بعدد من الخلاصات التي ذكرتها في نهاية الدراسة:
الملاحظة الأولى: أن فقدان الإخوان المسلمين للفاعلية السياسية مستقبلاً لا يعني بالضرورة اختفاء الجماعة في المستقبل. فقد تستمر الجماعة بفاعلية مستقبلاً في الجانب الدعوي أو في الجانب المجتمعي أو في الإصلاح الديني والعلمي، لكنه لن يكون لديها في الأغلب نفس هذه الفاعلية في الجانب السياسي.
الملاحظة الثانية: أنه يمكن "لأفراد من الجماعة" أن يكونوا فاعلين سياسيين مستقبلاً لكن دون أن تُحسب هذه الفاعلية على الجماعة. ومفتاح هذه الفاعلية هي في قدرة هؤلاء الأفراد في الانتقال إلى مستوى مختلف يحتاج إلى متطلبات جديدة.
وهذا يجرنا إلى الملاحظة الثالثة والأكثر أهمية، أن الفاعلية السياسية للإخوان المسلمين في المستقبل أو لأي تيار أو حركة سياسية في مصر مرتبط بأمرين رئيسية أظهرتها الدراسة: الأمر الأول هو مشروع سياسي واضح المعالم ومتفق عليه بين الحركة السياسية الجماهيرية.
والأمر الثاني امتلاك القدرة على تقديم حلول وسياسات عامة للمشاكل التي تعاني منها مصر حالياً، سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. وعند هذه النقطة يحسن بنا الخروج من سؤال المستقبل السياسي "للإخوان المسلمين" الذي يجعل الإخوان المسلمين محور تركيزه ونقطة نقاشه إلى سؤال المستقبل "السياسي" بشكل عام لأي حركة سياسية في مصر أو في العالم العربي الذي يموج بالتغيرات. يمكن أن يكون مستقبل المنطقة مليئاً بالكثير من العنف والتغييرات الراديكالية والصدامات الأهلية كما يتوقع الباحثون في الغرب. لكن هذا التوقع يمكن أن يكتبه الباحث الغربي بدم بارد؛ لأن الدماء التي سوف تسيل والأوقات التي ستهدر والطاقات التي تتبدد قد لا يشعر بأي انتماء تجاهها إلا إذا كان لديه انتماء إنساني حقيقي يتجاوز الأعراق والأديان والإثنيات.
أما بالنسبة للباحثين في العالم العربي، فإن محاولتهم لتقديم إجابة على سؤال المستقبل السياسي، يجب أن تبدأ من كيفية تحقيق الفاعلية، وتقديم الشروط والعوامل الموضوعية التي يمكن أن تساعدنا للخروج من المأزق التاريخي الحالي الذي بدأ في 2011 ولن ينتهي قريباً على الأغلب. فأهلنا هم المستفيد الأعظم أو الخاسر الأكبر من هذا التغيير.
الخروج من هذا المنعطف التاريخي بسلام يحتاج إلى رؤية سياسية متناسقة لها ظهير شعبي واسع عند تيار سياسي يحمل لواء التغيير والحكم الرشيد. غياب المشروع السياسي واضح المعالم والمتفق عليه بين أعضاء جماعة الإخوان المسلمين كان واحداً من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى عدم قدرة الجماعة على إدارة التغيير السياسي بالكفاءة المطلوبة. سيكون هناك الكثير من الاختلاف حول إذا ما كان وجود هذا المشروع السياسي كان قادراً على منع حصول الانقلاب العسكري من عدمه، لكني أزعم أنه سيكون هناك اختلاف أقل حول الوصول لاستنتاج مفاده أن وجود هذه الرؤية كان يمكن أن يساعد في تأخير هذا الانقلاب أو في تقليل الآثار الجانبية له. أما وجود فاعلية سياسية مستقبلاً، فإنها ستكون مرتبطة بامتلاك القدرة على إيجاد ومناقشة وتقييم السياسات العامة. يمكن لأي حزب أو فصيل سياسي سواء كان من الإسلام السياسي أو من غيرهم أن يصل إلى السلطة مستقبلاً إذا تغيرت الظروف وفتحت نافذة للتغير. لكن استمرار الحكم الرشيد وتحقيق مطالب المواطنين وإدارة الدولة بنجاح لن تتم إلا من خلال امتلاك القدرة على بناء سياسات عامة جديدة وبديلة، وعلى تقييم السياسات العامة الحالية للتمييز بين الصالح والطالح.
ولهذا، فإن تكوين الرؤية السياسية وامتلاك القدرة السياساتية هي أمور لا تخص جماعة الإخوان المسلمين وحدهم، لكنها تخص كلَّ مَن يحلم بالتغيير وبالحكم الرشيد في أوطاننا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.