أعلن الرئيس الروسي عن قبوله متطوعين أجانب في صفوف جيشه للمشاركة في حرب أوكرانيا، وكان قد سبقه إلى ذلك الرئيس الأوكراني، الذي تباهى بولادة فيلق دولي مهمته محاربة الروس.
هي حالة غريبة أن يدعو رئيس دولة أفراداً من دول أخرى لتشكيل مجموعات محاربة مهمتها القتل والتخريب، ولا قضية لها سوى ذلك.
وهذا يذكرنا بما كانت عليه الأحوال في أوروبا في حرب الثلاثين بين الفترة من 1618 وحتى 1648، والتي انتهت بتوقيع معاهدة صلح وستفاليا، حينها عاثت عصابات المرتزقة بالقتل والتدمير بأبشع صورها في كافة أنحاء أوروبا، تحت عنوان الصراع الديني بين الكاثوليك من جهة والبروتستانت من جهة أخرى.
لكن من رحم تلك الحرب وُلدت فكرة الوطن، وأصبحت الدولة تمتلك حصرياً حق ممارسة القوة المادية على إقليمها المحدد، بعد أن كانت الحرب تجري من أجل تعزيز سلطة الحكام كقضية عامة، لذلك نرى في تصرفات الرئيسين بوتين وزيلينسكي ارتداداً عن فكرة الدولة، وإعداماً لفكرة الوطن، وموتاً لما أتى به صلح وستفاليا من أمل في غد أفضل.
لقد أوصلنا اليوم بوتين وزيلينسكي إلى ما كتبه الألماني فريدريش هولدرلين في روايته "هايبيريون"، التي صدرت سنة 1795: "ترى حِرفيين لكنك لا ترى أناساً حقيقيين، ترى مفكرين لكنك لا ترى بشراً، قساوسةً لكن ليسوا ببشر، أسياداً وعبيداً، شباباً وأصحاب أملاك، لكن ليسوا بَشَراً، ألَا يُشبِه هذا العالَم أرضَ المعركة التي تَجِد فيها أياديَ وأذرعاً وأطرافاً على كل شاكلة متناثِرة بعضُها إلى جانب بعض، بينَمَا تَسري الدماء المُراقة منها في الرمال".
هي ليست حالة اغتراب، بل هي قمة "التشيّؤ"، ومصطلح التشيؤ يعني تَحوُّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء ومعاملة الناس باعتبارها موضعاً للتبادل، هو تحول الصفات الإنسانية إلى أشياء جامدة، واكتسابها صفاتٍ غامضة غير إنسانية، حيث يتم إحلال الأحمق المتخصص محل المفكِّر، هو عصر صنمية "السلعة" وصنمية "الإنسان" أيضاً.
الهجوم على كيان الدولة بنزع ما هو حق لها حصرياً لم يخترعه بوتين أو زيلينسكي، بل بدأ الهجوم في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية مع تأسيس شركة "داين كورب" (DynCorp) الأمريكية شركةً أمنية، وفي الستينيات أنشأ الإنجليز شركة "ووتش غارد إنترناشيونال" (Watch Guard International) التي قدمت خدماتها لبعض دول الخليج، وبعدها كرَّت السبحة حتى وصلنا إلى "فاغنر" الروسية، و"بلاك ووتر" الأمريكية، و"G4S" البريطانية، و"Scopex" الفرنسية، وغيرها من الشركات الأمنية الخاصة التي تعيث فساداً في معظم دول العالم من العراق إلى ليبيا مروراً بمالي وإفريقيا الوسطى وغيرها.
والأشدّ من كل ذلك هو أن الأمم المتحدة تستعين ببعض الشركات الأمنية الخاصة لتنفيذ مهمات لمصلحتها أو مصلحة مجلس الأمن الدولي، وتشارك هذه الشركات في بعض عمليات حفظ السلام الدولي، ونزع الألغام، وحماية موظفي الأمم المتحدة ومقراتهم وتنقلاتهم، وكذلك حماية قوافل المساعدات الإنسانية في العديد من بؤر النزاع حول العالم، وبخاصة في إفريقيا.
وذلك بما يتحايل على قرارها الصادر في سنة 1989، الذي اعتمدت الأمم المتحدة خلاله الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، حيث اعتبرت أن كل مرتزق وكل من يجند أو يستخدم أو يمول المرتزقة مجرم، كما حظرت على الدول تجنيدهم واستخدامهم، إذ لا يتمتع المرتزق بوضع المقاتل أو أسير الحرب.
والمرتزق حسب اتفاقيات جنيف الموقعة عام 1949 هو "أي شخص يجري تجنيده خصيصاً -محلياً أو في الخارج- ليقاتل في نزاع مسلح أو يشارك فعلاً ومباشرة في الأعمال العدائية".
لقد كشفت حرب أوكرانيا أن الإمبريالية العالمية دخلت مرحلة الجنون بشقيها الروسي والأمريكي، ولا عجب إن لم نستيقظ يوماً، لأن الأرض تكون قد دخلت في عصر جليدي جديد، ووداعاً بايدن ووداعاً بوتين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.