في هذا العالم، جملة "المنتصر من يكتب التاريخ" تبدو لي جملة عامة، تفتقد للدقة وربما للحدود التي يمكن أن تشكلها، فقد أثبت التاريخ أن حتى المنتصرين يمكنهم أن يخسروا موقفهم التاريخي، فقط إن استطاع أعداؤهم الخاسرون السيطرة على السرد.
فالسرد في عالمنا هذا هو ما تُكتب به القصص، وتُرسم به الشخصيات، وتُحدد به هوية المتصارعين، بالتالي هو ما يَكتب هوية المعتدي والمعتدى عليه، وما يرسم الخطوط الفاصلة بين الخير والشر، ويحدد أي الأفعال أخلاقي وأيها إجرامي، وهكذا يبدو السرد كفرشاة يرسم مالكها تفاصيل العالم كما يريد وكما تشتهيه مصالحه وهذا هو مربط الفرس.
لذا أرى أن من الأجدر تغيير الجملة السابقة "المنتصر يكتب التاريخ" إلى "من يسيطر على السرد هو من يكتب التاريخ"، وهكذا يتحول ميدان الصراع التاريخي حالياً إلى صراع حول أدوات السرد، من إعلام وفن وأغانٍ ومسلسلات وأفلام وكل مظهر من مظاهر القوى الثقافية الناعمة.
فهذه الأدوات السابقة يمكنها أن تغير كل شيء في صورة الواقع داخل الوعي الجمعي للعالم بأكمله، فيمكنها -على سبيل المثال لا الحصر- أن تجعل الطاغية بطلاً، أو تحول المظلوم طاغياً، ربما تصنع من القاتل منقذاً، وترسم الضحية جانياً يستحق العقاب.
والآن باستخدام ذات الأدوات يتحول الغازي السفاح الذي دمر الأرض وانتهك العرض وسفك الدماء إلى صاحب حق مُعتدى عليه من شعب جل أفراده ينتظرون اللحظة المناسبة فقط ليخونوا أمتهم ودينهم، وهذا هو الصراع الدائر حالياً بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي.
ففي حقبة تعاني منها صناعة السرد العربية من الانتكاس، وفقر الإبداع، ومتلازمة التقليد الأعمى لكل ما هو غربي، يجد الاحتلال الفرصة سانحة أمامه للإمساك بزمام السرد، فيصنع من نفسه بطلاً في كل صراعاته على هذه الأرض المقدسة، جاعلاً من كل أعدائه شياطين خاسرين يكذبون على العالم بأكمله في ادّعاء مظلوميتهم وأحقيتهم بهذه الأرض.
بالتالي نجده وقد بدأت آلته الإعلامية متزامنة مع آلته الحربية، في محاولة لتغيير سردية التاريخ بأكمله داخل أعين العالم، معتقداً لا بل متأكداً أنه بذلك سيرسم اللوحة التي يريدها والتي ستضمن له النصر حتى وإن لم يكن نصره ذاك حقيقياً، فيكفي أن يقتنع به العالم ليصبح حقيقياً في أذهانهم وفيلم "الملاك" ليس عنا ببعيد.
فيلم "الملاك" ومحاولة لوي عنق الحقائق
في فيلم "الملاك" الإسرائيلي يسرد لنا المخرج آريل فرومين قصة أشرف مروان، زوج ابنة عبد الناصر، والمسؤول المصري رفيع المستوى الذي كان عميلاً مزدوجاً لمصر ثم للاحتلال الإسرائيلي.
بالطبع شخصية أشرف مروان بالنسبة لنا نحن المصريين هو بطل قومي، كان مدفوعاً من قبل المخابرات المصرية داخل الموساد الصهيوني ليقوم بإرسال معلومات كاذبة قبل حرب أكتوبر عام 1973، وكانت هذه المعلومات الكاذبة سبباً رئيسياً في انتصارنا في تلك الحرب، ما جعله بالطبع بطلاً قومياً، وبالتالي يبدو كل شيء منطقياً حين يموت في ظروف غامضة عام 2007 بعد سقوطه من شرفة منزله في لندن، وتتهم زوجته الموساد بقتله.
بالعودة للفيلم يتبين لنا أنه قائم على كتاب باسم "الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل"، لكاتبه الصهيوني أوري بار جوزيف والذي يدعي أنه يسرد القصة الحقيقية كاملة لأشرف مروان، حيث إن الأخير قرر خيانة وطنه وشعبه والقيام بارتكاب خيانة عظمى لصالح الموساد، وهكذا كان أشرف مروان بالنسبة لهم الملاك الذي كان سبباً في توقيع معاهدة السلام بين مصر والاحتلال، ولكن هنا يأتي السؤال الحقيقي: إذا كان مروان جاسوساً للاحتلال وخائناً لوطنه، لماذا لم تتم محاكمته بواسطة السلطات المصرية، وقد ظهرت قصة خيانته منذ عام 2002 أي قبل موته في 2007؟
لذا يبدو الأمر لي في النهاية أن الفيلم لم يكن سوى محاولة لتغيير سردية التاريخ، لجعل الاحتلال صاحب اليد العليا، وتحويل بطل وطني إلى خائن، وهذا بالضبط ما يمكن للسرد أن يحققه.
فمع جهل العديد بهوية الشخصية التاريخية لأشرف مروان، وظهور الرواية الصهيونية عنه، لا يمكن أن نستغرب هيمنة سرديتهم للقصة حتى وإن كانت كذباً على الوعي الجمعي لكل من شاهد الفيلم.
ولكن رغم كل الجهود التي بُذلت في صناعة الفيلم، لا يزال يعاني من مشكلة صغيرة، وهي أنه فيلم تمت صناعته وصياغته بيد الاحتلال نفسه ويد صناع أفلام غربيين، بل حتى وإن تضمن بعض الأسماء الفنية التي قد تبدو عربية، فهي في الأصل مجرد أسماء، لأشخاص وُلدوا وترعرعوا ونشأوا طوال حياتهم في الغرب، بالتالي يحملون جنسياتهم وعقليتهم وكذلك ثقافتهم وغربيتهم، ولا يحملون ملمحاً عربياً حقاً سوى اسمهم.
فيلم "أميرة" والعقلية المتغربة
في عام 2021، صدر فيلم "أميرة" الفلسطيني، وكان أول فيلم فلسطيني من صناعة مخرج مصري وهو المخرج محمد دياب، وإنتاج هاني أبو أسعد، والفيلم ببساطة يناقش قضية النطف المهربة من سجون الاحتلال، حيث يقوم بعض الأسرى الفلسطينيين بتهريب نطفهم خارج السجن لزوجاتهم كي يضمنوا على الأقل استمرار نسلهم، وبالطبع كانت هذه القضية تشكل شبحاً مؤرقاً بالنسبة للأسرى الفلسطينيين، فسنين سجنهم في الغالب تستمر إلى أن يهرب منهم العمر وتغادر عيونهم الحياة، لذا وككل البشر يسعون لخلودهم وخلود ذكراهم وبقاء وجودهم عن طريق استمرار نسلهم في الحياة.
هذا الأمر جله ليس سوى حاجة إنسانية طبيعية، لا نمتلك نحن أن نناقشهم فيها أو حتى أن نتجادل حول حكم الفعل شرعياً ودينياً، وقد أُفتي لهم بحقهم في ذلك وصحته، بل نتعاطف معهم بكل ما نملك ونتمنى حتى زوال همومهم.
إذاً بالعود للفيلم، نجده يسرد لنا قصة الفتاة الفلسطينية أميرة، والتي وُلدت عن طريق نطفة مهربة، هربها والدها الأسير لأمها، فجاءت هي إلى الحياة، ولكن تكتشف أميرة أن تلك الحياة التي عاشتها ليست سوى كذبة كبيرة، فالنطفة التي خُلقت منها لم تكن نطفة والدها، بل نطفة جندي إسرائيلي كان يعمل حارساً للسجن الذي ضم والدها بين جدرانه، وقد ظن الجندي أن هذه هي الطريقة المثلى لتحطيم الكفاح الفلسطيني الذي يراه أمام عينيه كل يوم.
ترشح فيلم أميرة للعديد من الجوائز الغربية، ولكنه في النهاية تم منع عرضه في دول عربية بسبب تلك السردية التي يحطم فيها آمال الفلسطينيين وكفاحهم، فكما ترى، رغم أن الفيلم يناقش قضية شائكة، ويكشف وجهاً آخر من الكفاح الفلسطيني، فإنه قد جعل الضحكة الأخيرة، والانتصار النهائي في يد المحتل، ليحطم بذلك نفسية وعقل كل أسير داخل السجون لا يدري مما يحدث خارجها شيئاً.
وهنا نجد الطريقة المثلى التي يستغلها الاحتلال للتلاعب بالسرد، فلمَ يصنع فيلماً يسرد فيه بنفسه تاريخاً أو حدثا مزيفا، وبالإمكان أن يقوم بذلك عرب شربوا التغريب حتى شبعوا، يسعون لمكسبهم الشخصي ومجدهم الحالي، بغض النظر عن مدى المعاناة التي ستسببها أعمالهم، وبغض النظر عن مدى الآثار التي ستصنعها في النفوس.
فأكاد أظن أن المخرج محمد دياب أو صناع الفيلم، لم يفكروا للحظة في محاولة لتخيل كيف سيكون وجه الأسرى وذووهم حينما يرون الفيلم لأول مرة، وكيف يفكرون في شيء بعيد هكذا، والمكسب والجوائز والمجد والمال أمام أعينهم مباشرة، فيستغلهم الاحتلال بتلك الطريقة، كي يصنع نفسه منتصراً في أدق تفاصيل السردية العربية للكفاح الفلسطيني.
فيلم "صالون هدى"، كيف يتحول المتغربون إلى سلاح للاحتلال؟
منذ أيام قليلة، بدأ الحديث حول فيلم صالون هدى للمخرج الهولندي الفلسطيني هاني أبو أسعد، وتدور أحداث الفيلم حول ريم الأم الشابة والتي تزوجت رجلاً غيوراً، تذهب ريم إلى صالون تجميل في مدينة بيت لحم، وفي هذا الصالون نقابل هدى، والتي تُحول حياة ريم إلى جحيم حينما تخدرها وتصورها في وضع مخلٍّ مع شاب آخر، كي تقوم بابتزاز ريم ودفعها لتكون جاسوسة تابعة لمخابرات الاحتلال.
بالطبع لا يوجد شيء فلسطيني في فيلم "صالون هدى"، بل هو فيلم غربي بامتياز، فالفيلم يخلو تماماً من كل القيم والمعايير والتفاصيل العربية الإسلامية الفلسطينية، وكما هو متوقع من مخرج هو أقرب لهويته الغربية من العربية، الفيلم يحتوي مشاهد لا توصف إلا بالإباحية، وربما كانت هذه الإباحية ليست إلا وسيلة تسويقية لفيلم صالون هدى في مجتمع صانعه الغربي لا العربي، ولكنها رغم ذلك لم تفعل شيئاً سوى دعم رواية الفيلم والتي قد تتصادم مع الرواية والسردية الوطنية الفلسطينية.
فشخصية البطلة ريم، تبدو خاوية تماماً من الهوية، فمع تعرضها لعدة مشاكل عائلية نجدها سرعان ما سقطت في شباك الخيانة والمؤامرة للاحتلال، فنجد أن الخيانة قد تم تبريرها في سردية الفيلم منذ البداية.
ومن التفاصيل المبهرة أن فيلماً كـ"صالون هدى" غرضه المعلن هو تسليط الضوء على الكفاح النسائي، لذلك تم عرضه في مهرجان بيروت لسينما المرأة هذا العام، نجده قد تجاهل كل الشخصيات النسائية التي سطرت بدمائها تاريخ الكفاح ضد المحتل الإسرائيلي ليقدم لنا شخصية هشة وخائنة مبررة الأفعال مسبقاً.
في مثل هذه الأعمال السابقة، الملاك، وأميرة، وصالون هدى، نجد عاملاً مشتركاً واحداً، وهو أن جميع صناعها من النخبة المثقفة ذات الهوية الغربية وإن انتموا عرقياً للشرق وشعوبه، فهذه النخب لا تبالي إن استخدمهم الاحتلال في صراعه للسيطرة على السرد العربي، ولا تهتم إن حاول استغلال أعمالهم في تشويه صورة المجتمعات المناضلة والمناهضة للاحتلال، فهي لا ترى أمامها سوى المكسب المادي الذي تعلمت البحث عنه من سيدها الغربي.
وهكذا تتحول هذه النخب في النهاية إلى السلاح الذي يحتاجه الاحتلال للتحكم في السرد ورسم اللوحة النهائية لتاريخه المزيف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.