من أين أتى صلاح؟
البشر لا ينظرون إلى ما بذلته، من جهد، وشغف، وإصرار لرؤيتك على ما أنت عليه، بل يُقيّمون الوضع بما يُمكن أن يكون أقرب للواقع، والحقيقة أن محمد نفسه لم يتوقع أن يصل إلى ما وصله من مجد.
الحياة تكافئ المجتهدين، لأنها تسلخ أجسادهم بمصاعبها، تتركهم بمفردهم، أمام يد الجهل، والفقر، أن يُقتل محمد في السابق، إن كانت كرة القدم لن تُنجيه من الفقر، أن الواقع يفرض نفسه ويرغمك على ترك شغفك جانباً، لن يُطعمك شيئاً.
لكن المواصلة، والخروج من تحت الأنقاض هما النجاح، النجاح المرهون بالمُثابرة، التمحور المنطقي لكلمة "المُجازفة" في مجتمع يرفض المجازفات، زيارة بنوك سويسرا، أرض الفيولا التاريخية، عاصمة المعمار روما، ومدينة جيرارد الخالدة.
من أحلام، وتخيلات، وأفلام وثائقية، وأفلام تُقرب الأحلام وتنسف الواقع، أن العالمي سيصل مصر في يوم من الأيام، وقتها، لم يكُن المؤلف يعي ما يكتبه، كان يكتب لأن الكتابة تشفي الألم ولو بابتسامة أصحابها.
العالمي كان يُشاهد الدراما التي تستبق الأحداث؛ تصفه، العالمي الذي كان يُشاهد الفيلم الشهير كما لو كان قصته وهو يعرف أن قصته لا تقترب منه في أي شيء، العالمي الذي سجل هدفه الشهير في الردهات الأخيرة، واختطف مصر إلى المونديال، يوسف إن أردنا الدقة كما منحه المخرج كنيته، بل هو محمد الذي وهبه الله أكثر مما كان يتوقع.
من أجل أن نسرق الفرحة من أفواه الشامتين، أسسنا فيلماً يُحاكي الواقع الأليم، لكنه بعد محمد صلاح؛ سيتحول إلى فيلم وثائقي يصف المشهد بكل مصداقية.
لقد كان من الرائع حقاً أن نرى كل شيء يبدو عادياً بالنسبة للماضي، كيف كان وماذا أصبح، كيف يذهب للتدريبات بعد عناء شديد، وكيف يتصدر المشهد في كل لحظة، في وقتنا الحالي، الرجل الذي كان يسير على الأقدام حتى يصل إلى حلم بسيط، ها هو يُرفرف بجناحيه في سماء المجد.
الاجتهاد هو الروتين، الروتين هو رؤية الشيء نفسه بشكل ممل، ومحمد، وهو ابن بسيون، يستطيع أن يشرح هذا الأمر جيداً، أن يمنحنا معطيات كثيرة، ومن ثَم؛ يضع النتائج في إطارات روتينية، ما عاناه في الماضي، الحاضر هو نتيجته، المُعطيات الكثيرة، هي من تسببت في وصوله إلى تصدر المشهد، حتى يظن البعض أن الكتابة عنه في كل أسبوع أصبح أمراً مملاً للغاية، وكأن الرجل لم يُمضِ سنوات من عمره، في سبيل ولو حرف يرضي ذلك العناء.
محمد صلاح يتزعم المنطقة، ويتصدر المشهد، في كل وقت، ومنذ أن وضع قدمه في ليفربول، لأنه رأى ما يكفي لكي يستمر في العطاء، ولأن ربك لا يظلم أحداً، كان لمحمد ما يستحق، من جوائز، صيحات، هتافات، ومدح يبدو روتينياً في كل مقال أو صورة متداولة.
رأيت هذا من قبل.. رأيته كثيراً
"هل سيفعلها صلاح؟ مجدداً؟ نعم سيفعلها، ديجافو، في كل مكان ديجافو، رأيت هذا الهدف من قبل".
هكذا علق بيتر دروري على هدف محمد صلاح الرائع في مرمى واتفورد، بعد هدفه في مرمى مانشستر سيتي.
في عام 2018، كان هناك مشجع لليفربول في كاليفورنيا، اسمه تايلور، أثناء مباراة ليفربول وروما، تايلور كان سعيداً جداً، قال: "لا أطيق الانتظار لرؤيته في كأس العالم، أنا أثق كُل الثقة أن مصر ستذهب بعيداً في كأس العالم بسبب هذا الرجل".
بمجرد أن يسجل أي لاعب في البريميرليغ هدفاً، جرب أن تبحث على تويتر أو أي موقع إحصائي عن الإحصائيات، لابد أن يُذكر فيها اسم محمد صلاح، محمد صلاح سجل أكثر، محمد صلاح صنع أكثر، محمد صلاح خلق فرصاً أكثر… إلخ.
لأسباب بشرية بحتة، حينما يكون الإنسان عبقرياً، ويستمر في عبقريته بصفة مستمرة، فإنه لا يحصل على التقدير الذي يستحقه حقاً نظير عبقريته تلك.
هذا بالضبط ما كتبه أحد صحفيي التليغراف عن محمد صلاح: "لأي سبب كان، فإن صلاح لا يحصل على التقدير الذي يستحقه".
لكن، هذا الحديث لا يسري على أهل مدينة ليفربول، خاصة أنهم أكثر الناس دعماً ومساندة له، حتى أكثر من بعض المصريين الذين ينتقصون منه بصفة مستمرة، وبالتحديد أولئك الذين لا يرون من الأساس أن محمد صلاح قد وصل إلى مستوى خيالي، والذين يعتقدون أنه مجرد لاعب جيد قدم موسماً أو موسمين فقط يستحقان الثناء.
فبعد خسارته للقب كأس الأمم الإفريقية أمام السنغال، عاد محمد صلاح إلى ليفربول سريعاً، عاد وعلامات الحزن واضحة جلية على وجهه، لكن القائد فيرجيل فان دايك كان أول المستقبلين له، وظهر ذلك في فيديو نشره الموقع الرسمي لليفربول. فان دايك الذي بدا سعيداً للغاية قائلاً: "لقد عاد، الملك قد عاد".
وحينما نزل صلاح بديلاً أمام ليستر سيتي، كانت جماهير الأنفيلد تتغنى به وتدعمه، قاصدين بذلك إظهار روح التعاطف مع نجمه الذي خسر اللقب الثاني في البطولة القارية لبلده.
في آخر 5 سنوات، حقق صلاح كل شيء، فردياً وجماعياً، وأصبح عادياً أن تقرأ رقماً قياسياً حققه وتمر عليه بدون اندهاش؛ لأنها أصبحت حقيقة مألوفة.
أن تقرأ أن أول لاعب يسجل في خمسة مواسم متتالية في الدوري الإنجليزي، وإنه خامس أسرع لاعب يسجل 100 هدف، وأن يدخل في قائمة هدافين ليفربول سواء محلياً أو قارياً.
يبقى ثالث أفضل لاعب في العالم حسب الفيفا، يبقى أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي، أفضل لاعب في إفريقيا، الذي سيكسر رقم دروجبا.
4 سنوات بالضبط تحول فيها محمد صلاح من مجرد لاعب محترف، لنجم عالمي، في مكانة مختلفة بين صفوة نجوم العالم.
أخبروا الملك بأنه لن يعامل في كل أرض كما يعامله شعبه
ما زالت كلمات يورجن كلوب لفيليب كويتنهو، قبل رحيله إلى برشلونة؛ قائمة، وفيليب فعل كل ما يستطيع فعله للخروج من ليفربول، تمرد، وبكى، وقدم طلباً، وفي النهاية نال ما أراده. لكن كلوب قال كلماته الشهيرة، والتي بدت صحيحة فيما بعد: "ابقَ هنا، ابقَ هنا وسيصنعون لك تمثالاً، أو اذهب لبايرن ميونيخ، ريال مدريد أو برشلونة، وستصبح مجرد لاعب جيد".
لم يستمع فيليب بأي حال من الأحوال لِما قيل، لكن ما قاله يورجن كلوب، هو نفس ما قالته إيريكا شوبورينا، وإيريكا هي زوجة أنطوان جريزمان، نجم برشلونة وأتلتيكو مدريد، والتي قالت لزوجها في عام 2018: ابقَ في أتلتيكو، وسيصنعون لك تمثالاً، أو اذهب لبرشلونة وستصبح لاعباً عادياً هناك وسط كوكبة من النجوم.
والنجاح في منظومة رائعة أمر، وأن تصبح سيد المنظومة أمر آخر يختلف كثيراً، فمحمد صلاح هو ملك في مدينة ليفربول، بأمر من الجمهور وكل المسؤولين عن المدينة، وأي نجاح سيحققه صلاح خارج إطار ليفربول سيبدو نجاحاً عادياً.
في ليفربول، كان فيليب أميراً، إذا قدم مباراة سيئة سيجد كلوب ينتظره قبل الدخول إلى غرفة الملابس ويحتضنه، وكأن شيئاً لم يكن، والجماهير ستدعمه وتصفق له، فيليب كان شيئاً آخر في ليفربول.
وفيليب هو نفسه من لم يستطع تحمل ضغط الكامب نو، وهناك انتقدوه بشدة، وأطلقوا عليه صافرات الاستهجان، وأصبح مجرد لاعب لا هو من بين الأفضل لديهم، ولا هو فيليب الذي كان عليه في ليفربول.
في فرنسا، ميسي، البطل المغوار في كتالونيا، يُقابل بصافرات الاستهجان، هذا لأنه لم يفعل لباريس شيئاً يجعله مُنزهاً عن الانتقادات، هو لاعب رائع، لاعب رائع في منظومة جيدة، على عكس ما كانه في برشلونة، ملكاً، وأميراً، وحاكماً بأمره.
في برشلونة، لم يولد ميسي، ولم يتربَّ بها، بل أتاها ضيفاً، في الثالثة عشرة من عمره لأسباب رياضية جداً.
ورحل عنها في الرابعة والثلاثين مُرغماً، لكنه على الأقل لم يُقابل هناك إلا بالحب، بالحب عاش، وبالحب رحل.
بل إنهم كانوا يدعمونه ولو في أسوأ لحظات النادي، ففي عام 2017، حينما خرج برشلونة على ميدانه من دوري أبطال أوروبا أمام يوفنتوس، كان ليونيل ميسي يُسدد تسديدة طائشة في المدرجات في اللحظات الأخيرة.
هناك وقفت الجماهير تهتف باسمه وتدعمه، وخرج ميسي منتصراً، في ليلة كبيسة، وعاش سعيداً، في مدينة لم يولد بها، ورأى الحب، من أناس اعتبروه ملكاً.
على محمد صلاح أن يأخذ كل ما سبق في اعتباراته، وأن يعرف أن أي نجاح سيحصده خارج ليفربول؛ سيكون نجاحاً عادياً، هذا لأنه عاش ملكاً في ليفربول، ولن تتم معاملته في أي مكان آخر بنفس الصورة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.