هل هناك أمرٌ أفجع من أن تستيقظ على وقع إعلان خبر الحكم على الأساتذة المناضلين والمطالبين بحقوقهم المشروعة بعقوبات غير عادلة؟ بحيث قضت المحكمة الابتدائيّة في الرباط يوم الخميس 10 مارس/شباط الجاري، بالحكم بعقوبات جائرة في حقّ الأستاذةِ نزهة مجدي، بثلاثة أشهر حبساً نافذاً، فيما تم الحكم على أربعة وأربعين أستاذاً بشهرين موقوفة التنفيذ وغرامة قدرها 1000 درهم.
لا أظن أن هناك شيئاً أحزن من هذا الأمر وأفظع منه، مفاجع الوطن كثيرة، وفواجع البلد تمطر علينا بالبؤس والقهر، ألا ينبغي للمسؤولين أن يخجلوا من أنفسهم بسبب ضربهم في صورة الأساتذة؟ ألا ينبغي لهم أن يخجلوا من التناقضات الفاضحة التي يقعون فيها؟ يقرّون أنّ الدستور المغربي يوفّر للمواطن جميع الحقوق، ولكنّ التّنزيل الواقعي لهذه الحقوق يقابل بالتّجريم.
مسارعةُ المسؤولينَ عن تدبير الشّأن القضائي والحكومي إلى قمع الأساتذة المفروض عليهم التّعاقد، والزّج بهم في السّجن، دليل قاطع على هشاشة نظام العقدة في التّعليم، وإصدار الأحكام الجائرة في حقّ الأساتذة ضربٌ من ضروب إهانة جسد التّعليم، إِنْ لم نقل بأنّه ضرب مباشرٌ في كرامة الأستاذ.
إنّ الأحكام التي قضت بها المحكمة الابتدائيّة نعتبرها غيرَ عادلةٍ، لعدم تماشيها مع ما يسنّه الدستور المغربيّ، بحيث ينصّ في الفصل 29 على أنّ "حرياتِ الإجماع والتّجمهر والتّظاهر السلميّ، وتأسيس الجمعيّات والانتماء النّقابي والسّياسيّ مضمونة"، كما شدّد الدّستور على الاحتجاجات السّلمية من خلال الفصل 37 الّذي نصّ على جميع المواطنين احترام الدّستور والتّقيد بالقانون ويتعيّن عليهم ممارسة الحقوق والحريّات التي يكفلها الدّستور بروح المسؤوليّة والمواطنة الملتزمة التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنّهوض بأداء الواجبات.
فمتى سيبرد الحزن الذي في فؤادي على هذا التناقض؟ يسهر المدرّس على تعليم المتعلّمين الحقوقَ التي سنّها الدّستورُ وشرّعها القانونُ، وإذا أمسى مطالباً بمطلبٍ بسيط غير معقّد نقيم الدّنيا ونقعدها، فنعمد إلى قمعه ورفسه واعتقاله ومحاكمته ثم اتهامه وتجريمه، والإلقاء به في سجون الشّرفاء الأحرار المظلومين. محاكمةُ الأساتذة لأنّهم طالبوا بحقّهم المشروع، ستبقى وصمة عار في تاريخ المغرب.
وكان ردُّ فعلِ التّنسيقيّة الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التّعاقد، ردّاً حكيماً، بالإعلان عن تمديد الإضراب، تنديداً بالأحكام الجائرة في حقّ الأساتذة المعتقلين، ودفاعاً عن كرامة الأساتذة والأستاذات، واستمراراً في المطالبة بحقّنا المشروع ومطلبنا العادل، بإسقاط مخطط التّعاقد المشؤوم، والإدماج في أسلاك الوظيفة العموميّة. فاللجوء إلى المحاكمات الصّورية بغية تكسير الأشكال النّضالية، وزرع الخوفِ في صفوف الأساتذة أمرٌ صعب التّحقق؛ لأنّنا داخل إطار التّنسيقية ومجلسها نشبه قول الشاعر، القائل:
واقرن رماحك بالثغور فإنها … مشتاقة أن تبتني بعلاكا
فالعز في نصب الخيام على العدا … تردي الطغاة وتدفع الملاكا
والنصر مقرون بهمتك التي … قد أصبحت فوق السماك سماكا
فإذا عزمت وجدت من هو طائع … وإذا نهضت وجدت من يخشاكا
والنصر في الأعداء يوم كريهة … أحلى من الكاس الذي رواكا
فإذا أرادت الدّولة أن تعنى بالتّعليم فلتقدّس الأستاذ، وإذا ابتغت الدّولة الفضيلة والفضائل فلتكرم الأستاذ، وإذا أرادت الدّولة النّهوض بهذا الوطن الحزين والارتقاء به فلتمنح للأستاذ نهراً كبيراً لا متناهياً من الثّقة، ولتجعل الدّولة والوزارةُ أمور التّعليم ميّسرة للنّاس، ولتأخذ الدولة عهداً مع نفسها لتعترف بأنّ نظام التّعاقد ليس مدخلاً مناسباً وصحيحاً لإصلاح المّدرسة، بل هو مفسدة، تخلق داخل جسد التّعليم تمييزاً بين الأساتذة.
ولتعلم الدولة أنّ التعاقد يهدد المدرسة العموميّة، ومن ثمة فهو سيحرم النّاس من طلب العلم، وهناك أشياء كثيرة يجب على الدولة والوزارة أن تعلمها، وأدّلها أنّ التّعاقد هشّ، وأنّها تلقي بالتّعليم العموميّ إلى الانتهاء.
ولا ضير أنْ نذكّر الوزارة أنّ وجودها ليس ترفاً ولا متاعاً، بل هو تكليف لتعالج جسد التعليم المريض، ومعالجته ظاهرة في إلغاء مخطط التّعاقد المشؤوم. فليكن سائس أمور التّعليم مثل قول الحسين بن علي بن الحسين، أبو القاسم الوزير المغربي (المتوفى: 418هـ) في كتابه "السياسة": "فالسّائس يجب أَن تكون لَهُ عين راعية تتفقد أَصْحَابه ليتلطف فِي تثبيت صَلَاحهمْ وَنفي فسادهم بِمَا يتهيّأ، وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَعْنى أَن لَا يعْتَقد أَنه اسْتغنى أَو استكفى كَافِيا أمرا يهمه فقد اسْتغنى عَن تفقده وتعهده، بل يجب أَن يتَصَوَّر أَنه مُضْطَر إِلَى مراعاته وملاحظته بِنَفسِهِ كالأستاذ فِي الصَّنْعَة الَّذِي يكل إِلَى تلاميذه مَا يصنعونه إِلَّا أَنه يراعيهم ليأمن خللا يجْرِي فِيهِ، وَهَذَا أصل عَظِيم يَنْبَغِي أَن يُوقف الْفِكر عَلَيْهِ والاهتمام بِهِ" (ص50).
ولن أضيف شرحاً أو تعليقاً على قول الوزير المغربي، ولكن سأقول أيضاً للقضاة الذين يحاكمون الأساتذة، ويحكمون عليهم بعقوبات يستيقنون أنّها ظلم وظلمات، كونوا رعاكم الله كمثل قول علي بن محمد بن أحمد، أبو القاسم الرحبيّ المعروف بابن السِّمناني، واصفاً القضاء في كتابه: "روضة القضاة وطريق النجاة": "فالقضاء رتبة شريفة، ومنزلة رفيعة لا منزلة فوقها من المنازل، ولا رتبة أوفى منها إذا اجتمعت شرائطها وحصل في القاضي ما يفتقر إليه من الخصال، لأنها التي تولاها الله تعالى بنفسه"، ص51.
إنّ صوت كلّ أستاذ فرض عليه التعاقد بعد هذه المحاكمات الصّورية في حقّ الزّملاء الأساتذة والأستاذات، يردّد: لن يذهب عني ما في فؤادي من الحزن، ولن تفارقني الكآبة، وأنا أرى الأستاذ يحاكم ويزج به في السجن؛ لأنه احتجّ في الشارع للمطالبة بحقّه، لعمري إنّي لضجر، وضاقت بيَ الآفاق الرّحبة وأنا أرى هذا الظلم في بلد "الظلمقراطية".
ما قضت به المحكمة الابتدائيّة لم تقضِ به إلى شخص جاهل، أو غبي، أو مغفّل، أو مجرم، أو إرهابي، بل قضت به إلى المعلم أو الأستاذ، النفس الطّاهرة المثقفة، التي تحمل أمانة تربية الأجيال، ألا يعلمون أنّ الديمقراطية لا تتفق مع الجهل كما قال طه حسين؛ لأنّ أمرهما مؤدٍ إلى الخداع والكذب والنفاق والتضليل والتعنيف. فالسائس الجاهل ينظر إلى الوعي نظرة عداء، وإلى الثقافة بأنها بهتان، وإلى الحرية على أنّها جريمة، وإلى الاحتجاج على أنه فتنة، طبعاً، لأنّ الساسة مرتبطون بشهوة الجهل، التي تولّد فيهم شهواتِ القمع والتنكيل، ومن ثمة، يعتبرون المطالبة بالحقوق من الآثام والجرائم.
فلن يكون السّجن رهبة للجماهير الشعبية والأستاذية، بل هو نداء إلى الاتحاد والمقاومة، حتى إسقاط التعاقد، وعدم تجريم القضية، ونعلم أنه:
لا عار في السّجن للأحرار إن سجنوا … بغير جرم ولكن سجنهم شرف
كالسّيف والدّرّة الزّهراء سجنهما … خوفا وضنّا بها الأغماد والصّدف
إن يحجبوك عن الأبصار لا عجب … اللّؤلؤ الرّطب قد تكتنّه الصّدف
أو يظلموك فصبرا وانتظار غد … فإن ربّ الورى لا شك ينتصف
إنّهُ لبغاءٌ فَاحشٌ أَنْ تسلبَ مِنْ الأستاذِ كرامَتَهُ، ثم تطْلب منه أنْ ينتجَ لك جيلاً كريماً، وإنّهُ لمَذلّةٌ فاضحةٌ أن تأمر الوزارةُ الأستاذَ بتربيّة جيل على قيم الحبّ والمحبّة والتّسامحِ، وهي تكْرَه هذا الأستاذَ وتكَدّرُ عليهِ معيشتهُ، وتضنك حياتَهُ.
وإنهُ لبهتان عظيمٌ وافتراءٌ ماقتٌ أنْ تجاهرَ في مناهجكَ ومجالسكَ على أنّ البلدَ بلدُ حقٍّ وقانونٍ ثم تضطرُ إلى ممارسة الحقّ والقانون على الضّعفاءِ، وإنّه لعيبٌ كبيرٌ أنْ تُقرّ في دساتيركَ أنّ للمواطنِ حقَّه في الحريةِ والاحتجاجِ والإضراب، ثم تجُرّه إلى المحاكمة وتصدر في حقّه عقوباتٍ جائرةً، لا تكرهوا المواطنَ على العبودية والاستعباد، ولا تحطّوا من قيمة الأستاذ.
فلا حقّ لكم لتغتصبوا الشّباب المغاربةَ بسبب زرع الخوف في نفوسهم، فتجعلوا أسمى أمانيهم مغادرة الوطن. ونشهد الله أننا نحب أرضنا ونعشقها، ولو كانت وثناً لعبدناها، ولكن رجاءً لا تجعلوا أيامنا مليئةً بالبؤس والأحزان، لا نريد شيئاً سوى وطنٍ يحفظُ كرامتنا ويضمنُ حقّنا، ويزرعُ الثّقة في شبابنا وأطفالنا. ونقول قول الشاعر:
فمن لي بأيام الشباب قد مضت… ومن لي بمن قد فات في الحبس من عمري؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.