عندما أرى الأفلام الغربية المأخوذة عن التوراة والإنجيل وما حولهما، وأنا للحقيقة معجب بها، أتعجب لماذا لا تكون لدينا سينما مشابهة تعتمد على القَصَص القديم الوارد في القرآن.
وحتى يكون كلامي مقنعاً سأقدم هنا -على سبيل المثال- إحدى هذه القصص التي يمكن أن تصنع فيلماً جيداً وناجحاً بالمقاييس السينمائية. ولنسميه مثلاً (عصابة التسعة)، وأريد لهذا الفيلم أن يدور حول هيكل القصة كما وردت في "سورة النمل". أي أنني سأعتمد على هذه الآيات التسعة (كذا) لبناء الحبكة الدرامية التي سأقوم بتعميق أحداثها بما جاء في السور الأخرى من إضافات دون أن ألجأ (بداية) لأي من كتب التفسير.
تصف "سورة النمل" هؤلاء التسعة فتقول:
"وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ".
فنحن هنا أمام مدينة بها عصابة مفسدة مكونة من تسعة أشخاص كانوا ولا شك من الفتاك. وبهم قد يبدأ الفيلم من خلال حادثة فتك دموية تخطف الأنفاس وتبين مهاراتهم في الفتك والقتل. ولتكن هذه الحادثة على سبيل المثال خارج تلك (المدينة) وتحتاج لتخطيط وذكاء كبيرين.
فإذا ما انتهوا من مهمتهم الدموية تلك عادوا إلى المدينة. وهنا يمكن استعراض المدينة من خلال عودتهم إليها؛ فيمرون بداية بالسهول المحيطة بسور المدينة فنرى القصور الصيفية لأكابر المدينة، وفي "سورة الأعراف": "تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً". بالطبع بعض هؤلاء الأكابر سيحيي هؤلاء التسعة ويحتفل بعودتهم ويدعوهم للنزول عنده، ولكنهم سيعتذرون عن تلبية الدعوات دون تعليل، ولكننا نفهم أنهم لا بد وأن يقدموا تقريراً عن مهمتهم الأخيرة لشخص ما بالمدينة. ويمرون بالقصور فنرى فيها وفيما حولها ما يدل على غنى هذه المدينة. ويوجد في "سورة الشعراء" وصف لهذا على لسان النبي صالح الذي قال: "جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ".
ثم يدخل التسعة من بوابة المدينة المهيبة فنرى بيوتها المنحوتة في الجبال والصخور العظيمة فتبدو فخمة فارهة، لذا عندما يذكر صالح بيوت المدينة يقول: "وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ".
وفي وسط المدينة سرعان ما لاحظ التسعة أن المدينة أصبحت منقسمة على نفسها. وفي "سورة النمل" التي بدأنا بها جاء ما يلي: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ". ومن الآية نعرف أن المدينة تسمى (ثمود) وأنها أصبحت كما رأى هؤلاء التسعة منقسمة على نفسها بسبب رجل من أهلها، نبي جديد، يسمى (صالح)، وأن الصراع دائر بين قسميها، وهو كما نعرف صراع لا يتقادم ما بقيت المدن والدعوات والعصابات.
ويتمهل بعض التسعة قرب بعض كبراء المدينة وهم يسخرون من بعض أتباع صالح. ويبدو أن صالحاً كان قد بدأ عمله سراً كما يحدث في أغلب الرسالات ثم خرج للعلن، وهذا ظني بالطبع. وكالعادة يؤمن بالفكرة الجديدة أكثر الضعفاء والفقراء الذين لا يملكون إلا أصواتهم وأجسادهم. أما الكبراء فيكونون في العادة مرتاحين للوضع الذي اغتنوا في إطاره وكبروا فلماذا يغيرونه من أجل مجموعة من الضعفاء الفقراء؟! ولذا عندما عرفوا بأمر صالح ومن يتبعه بدأوا يختبرون هؤلاء الضعفاء بسخرية واستهانة ظاهرة ومن ثم كان الانقسام في المدينة.
ويسمعهم بعض التسعة وهم يقولون لبعض المستضعفين من أتباع صالح: "أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ؟". فيقول المستضعفون: "إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ". فيقول الكبراء باستهزاء: "إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ". ولاحظ أنهم لا يقولون: إننا لا نؤمن بصالح وما جاء به، وإلا فأين السخرية والاستكبار! وإنما يقولون لهم "إنا بهذا الذي آمنتم به كافرون". وهذا هو تَجبُّر من يعرف أن ليس أمام عدوه ما يفعله.
أما صالح (عليه السلام) فيبدو أنه كان ذا مكانة بينهم، لذا لا يأبه لهم ولا يخافهم. وكما في "سورة هود" عندما يتحداهم بدعوته يداهنونه قائلين: "قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا". أي مرجوّاً أن يكون معهم ربما في عصبة الكبراء المسيطرين.
ويبدو أنهم كانوا يتطيرون فإذا قال لهم صالح: "يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ"؟ يقولون له: "اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ". أي يبدو أنكم ستكونون شؤماً على هذه المدينة وربما تسببتم في خرابها (كذا) ولا يزيدون كأنهم يخافونه أو يخافون أهله. ولأن المرسلين لا يخافون إلا الله تجد صالحاً يتحداهم ويرد عليهم: "بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ"، أي هناك من يفتنكم ويشوّه فهمكم، ربما إعلام ثمود مثلاً.
ولكن بعد هذا الجدال السلمي يأتي اللجوء إلى العنف من جانب الفريق المعادي للنبي صالح ممثلاً في عصابة التسعة التي تجتمع وتفكر في الأمر بإمعان. وكمجرمين محنكين، فهم عمليون، ويعرفون أين يقفون وممن يستفيدون. وككل المجرمين خططوا لحل مشكلة المدينة بالطريقة الوحيدة التي يتقنونها وهي اغتيال صالح وأهله. وبالفعل بدأوا يضعون خطة لعملية الاغتيال حتى أن "سورة النمل" تقول: "وَمَكَرُوا مَكْرًا"، والمفعول المطلق كما نعرف لزيادة توكيد المكر.
وبعد الاتفاق على اغتيال صالح وأهله يطلبون من بعضهم البعض القسم على الاتفاق: "تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ". ولاحظ تعبير (تَقَاسَمُوا بِالله)؛ فهم مجرمون وثنيون ولكنهم يؤمنون بوجود الله ويقسمون به! ولاحظ أيضاً علامات التوكيد الكثيرة في تعبير (لَنُبَيِّتَنَّهُ) فيبدو أن الحقد أو العداء قد بلغ مبلغاً عظيماً.
ومن شدة مكرهم أنهم لم يضعوا خطة الاغتيال فقط، ولكن أيضاً خطة ما بعد الاغتيال، وفي السورة نفسها: "ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ". وطبعاً ولي الدم سيصاب بالرعب عندما يجد المجرمين التسعة العتاة يقولون له إنه لا صلة لهم بالأمر. وهو أمر عجيب بالفعل. بمعنى أنه حتى قبل أن يتهمهم ولي الدم بالأمر -هذا إن تجرأ وفعل- يذهبون هم بأنفسهم إليه وينكرون الأمر. كأنهم بإنكارهم يقولون له: لو تشككت مجرد شك فنحن نقول لك إنه لا دخل لنا بالأمر. بل وربما ينصحونه بأن الأفضل له أن يدفن صالح سريعاً وربما ليلاً!
بعد كتابة هذه الجملة الأخيرة فهمت أخيراً لماذا لا تُصنع مثل هذه الأفلام لدينا. ربما لأن من يمكنه صناعة مثل هذه الأفلام لدينا يعرف تماماً أنه لو كان في مدينة ثمود آنذاك لكان ضد صالح ومع التسعة، بل وربما مول الاغتيال وأمر بالدفن ليلاً. وهذا هو الفرق بين من يصنعون مثل هذه الأفلام في الغرب ومن لا يصنعها عندنا.
وفي آيات هذه السورة لا يوجد ذكر لمعجزة الناقة. ولكن يمكن إضافتها مباشرة بعد المجادلة بين كبراء المدينة والنبي صالح. فيبدو أنهم لما طال جدالهم طلبوا من صالح معجزة دليلاً على دعوته؛ فجاءهم بواحدة بنت بيئتها. ناقة ضخمة منحوتة كبيوتهم من أحد جبال المدينة وتخرج منه أمام أعينهم. وكان صالح يعرف بالطبع أن هذه المعجزة من مكر الله سبحانه، وأن مجرمي المدينة لن يتركوا الناقة في سلام لذا يقول لهم كما في (سورة هود): "وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ".
وقد ورد التحذير نفسه في (سورة الأعراف) ولكنه ختم بكلمة (أليم). وفي (سورة الشعراء): "لَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ".
وكما كان صالح يخاف ويتوقع فإن كبراء المدينة كما في (سورة القمر): "نَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ". فيبدو أن صاحبهم هذا كان رئيس التسعة أو الآمر بالاغتيالات التي يقومون بها. المهم أنه عقر الناقة وفصيلها، وحينئذٍ شهدت المدينة حالة من الرعب ثم عُوجلت بعذاب اليوم العظيم. وهذا بالطبع ما أفسد خطة التسعة لاغتيال صالح وأهله.
طبعاً نعرف من القرآن أن يد الله سبحانه تدخلت وأنجت صالحاً والذين آمنوا به. أما المدينة فكما في (سورة فصلت) تم تدميرها بـ(صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ). وكما في (سورة الأعراف) برجفة أي زلزلة: "فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ"، وكما في (سورة القمر) بصيحة: "إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ". والصيحة قد تكون هي صاعقة العذاب التي أحدثت رجفة دمرت المدينة عليهم فأصبحوا في دورهم جاثمين وخاصة التسعة وصاحبهم (شيخ المنصر).
بقي فقط أن أقول إنه في كل هذا لا ينبغي ذكر القرآن مطلقاً، ولا البوح بأي معنى ديني بأي شكل واضح، وأن يترك كل شيء للسينما وقوانينها الخاصة وألا يعلو صوت على صوت الفن السينمائي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.