ولّدت الحرب الروسية- الأوكرانية أزمة لجوء غير مسبوقة في القارة الأوروبية وُصفت بأنها الأسرع تفاقُماً منذ الحرب العالمية الثانية. ساعاتٌ قليلة من الحرب دفعت بالمُراسلين نحو الحدود الأوكرانية لتغطية وصول اللاجئين إلى دول الجوار ليتزامن وصولهم مع ظهور فصل جديد من فصول العُنصرية اتّسم بمُقارنة اللاجئين الأوكرانيين (المُتحضرين) بغيرهم من اللاجئين (غير المُتحضرين).
اعتمدت التصريحات العنصرية التي تبَّنتها وسائل الإعلام الغربية من اللون والعرق والجنسية معايير أساسية للتضامن مع الحالات الإنسانية، فقد صرّحت مُذيعة شبكة NBC في اليوم التالي للعملية العسكرية في أوكرانيا بأن اللاجئين الأوكرانيين "ليسوا لاجئين من سوريا، إنهم مسيحيون من ذوي البشرة البيضاء ويشبهون إلى حد كبير الناس في بولندا". بينما صرّح مُراسل شبكة CBS بأن هذا المكان ليس العراق أو أفغانستان، بل إنه بلد أوروبي متحضر، واستضافت شبكة BBC مُداخلة للنائب العام السابق لأوكرانيا صرّح خلالها بأن "ما يجري مُؤثر لأنني أرى أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر يُقتلون".
أفرزت التصريحات العنصرية حالة غضب على مواقع التواصل الاجتماعي، كان أبرزها الإشارة إلى سياسة "الكيل بمكيالين" التي اعتمدتها وسائل الإعلام الغربية التي صوّرت الأوكرانيين الذين يقومون بتصنيع زجاجات المولوتوف على أنهم مُدافعون عن وطنهم في الوقت الذي ترفض أغلب وسائل الإعلام الغربية تصوير الشباب الفلسطيني المُسلّح بالحجارة بطريقة مُشابهة، ونشر رُواد مواقع التواصل الاجتماعي صوراً شخصيةً لهم مُرفقة بوسم "غير مُتحضر – uncivilized" كنوع من الرد الساخر على هذا النوع من العنصرية الإعلامية.
فلماذا يتم تصويرنا على أننا "غير مُتحضرين"؟
يجدر الإشارة إلى أن أسباب هذه العنصرية متعددة ومتشابكة، وتصبّ بمجملها في خدمة الخطاب الاستشراقي المُهيمن على سياسة معظم وسائل الإعلام الغربية. والاستشراق أكاديمياً هو مفهوم اشتغل به الكاتب الفلسطيني الأمريكي في دراسات ما بعد الاستعمار (إدوارد سعيد) في كتابه "الاستشراق" والذي أوضح من خلاله دور الاستعمار في تكريس مركزية الغرب وفرض ثنائية الشرق المُتخلف مقابل الغرب المُتحضر كوسيلة لترسيخ الاستعمار الغربي الفكري والثقافي ونشر أيديولوجيات تُناسب أهداف المُستعمِر.
ولعل أبرز ما اتسم به الخطاب الإعلامي الاستشراقي هو تنميط العرب والمسلمين والأشخاص من ذوي البشرة غير البيضاء بصور سلبية تُشير إلى أنهم شعوب مُتخلفة وغير حضارية، ذكُورهم عنيفون ومُتحرشون، ونساؤهم لا يُجدن سوى الطبخ والرقص الشرقي. بالإضافة إلى تخصيص مساحة تغطية إعلامية واسعة للتركيز على الجرائم وعمليات الشغب التي يقوم بها أشخاص مُسلمون مٌقابل تجاهل أو تهميش نفس الجرائم التي يرتكبها أشخاص غير مُسلمين أو من ذوي البشرة البيضاء، وهذا ما أكدته دراسة نُشرت في عام 2019 والتي خلصت إلى أن الجرائم المُرتكبة من قِبَل أشخاص مُسلمين تحظى بتغطية إعلامية مُضاعفة أربع مرات مُقارنة بالجرائم المُرتكبة من قِبَل أشخاص غير مُسلمين.
إن منطق استعلاء البيض وتهميش غير البيض، فوقية المسيحيين ودونية غير المسيحيين وما ينتج عنها من حالة رهاب من المسلمين، ما هو إلا تمثيل لفكر اليمين المُتطرف، وهو مُصطلح يُشير إلى مجموعة من التيارات الفكرية والأحزاب السياسية التي تؤمن بفوقية العرق الأبيض والأوروبيين والمسيحيين على غيرهم من شعوب العالم، وينظر أتباع فكر اليمين المتطرف إلى اللاجئين من خارج القارة الأوروبية ومن غير المسيحيين على أنهم غُزاة للأرض الأوروبية وأن عليهم حماية أرضهم من الخطر القادم من الشرق.
يجدر الإشارة هنا إلى أن الشرق والغرب كما وردا في الاستشراق هما حدود بدلالات مجازية، أي إن حدود الشرق تشمل المناطق التي يسكنها العرب والمسلمون من ذوي البشرة غير البيضاء في حين يشمل الغرب المناطق التي يسكنها المسيحيون من ذوي البشرة البيضاء. ولم يكن هذا التقسيم هو المُحاولة الوحيدة لخلق جدار فاصل بين "المُتحضرين وغير المُتحضرين"، فهُناك مُصطلح (الجنوب العالمي) الذي يُشير إلى البُلدان الفقيرة في مناطق إفريقيا وأمريكا اللاتينية والبلدان النامية ويقابله مصطلح (الشمال العالمي) الذي يُشير إلى الدول الغنية والمُتحضرة.
الاستشراق، المركزية الغربية، اليمين المُتطرف ورِهاب المسلمين هو المزيج الذي نحتاج إلى التركيز عليه لتفسير الخطاب العُنصري المُنتشر على وسائل الإعلام الغربية مؤخراً، وفهم أن ما يتم عرضه على وسائل الإعلام قد يكون مليئاً بصور سلبية تهدف إلى نشر ثقافة التنميط وتكريس فوقيّة عرق أو لون أو جنسية ودونية أُخرى، وبالتالي تقسيم الشعوب على أساس المُتحضر وغير المُتحضر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.