مع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا أسبوعها الثاني أخذت التطورات منحى متصاعداً، واتّجهت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، خاصة في الاتحاد الأوروبي، إلى خيارَي الدعم العسكري لأوكرانيا، ثم العقوبات الاقتصادية لشلّ قدرات الاقتصاد الروسي، وجعل مهمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مستحيلة، لكن فاعلية هذا الجواب تبقى مرتبطة بقدرة الداخل الروسي، ثم الداخل الأوروبي أيضاً، على مقاومة تبعات هذه الخيارات، وردود الفعل الروسية المحتملة.
العالم العربي، في هذه المعادلة، يبقى الحلقة الأضعف، رغم أنه في المجمل نأى بنفسه عن الاصطفاف، وفضّل إلى اللحظة عدم الانخراط في هذه الدينامية، لكن هذه التطورات المتسارعة، وتأثيراتها البالغة على اقتصاديات الدول العربية، وعلى وضعها الاستراتيجي، بل وتأثيراتها المحتملة على منظومة أمنها القومي، يتطلب لحظة توقف طويلة، لفهم الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه الحرب، ذلك أنها كشفت هشاشة كبيرة في المعادلة العربية، وأبانت عن ضعف الخيارات البديلة، ومحدودية القدرة على المقاومة في حال ما إذا وضع العالم العربي أو بعض دوله في ظروف شبيهة.
المستوى الاستراتيجي
على المستوى الاستراتيجي، يمكن أن نسجل اهتزاز ثلاثة خطوط أساسية، فعلى الرغم من المكاسب التي يمكن أن تحققها دول الخليج جراء ارتفاع أسعار النفط والغاز، فإن وضعها الاستراتيجي سيعرف سيناريو أسوأ من سيناريو الاتفاق النووي مع إيران سنة 2015، فاليوم تشعر إيران أن نفطها مطلوب أمريكيّاً، وتدرك أن ورقة الضغط بالرفع من القدرات التخصيبية لليورانيوم ستكون اليوم أكثر فاعلية من ذي قبل، فالدول التي تمتلك السلاح النووي هي وحدها التي تملك خيارات أوسع للمناورة، وتبقى عصية على الإخضاع. ومن ثم فكل المطالب الخليجية المرتبطة بإدخال النفوذ الإقليمي الإيراني ضمن مشمولات التفاوض مع إيران سيتم تجاوزها، فأمريكا باتت مضطرة للتوصل مع إيران لاتفاق نووي يخدم طهران، ولن يبقى أمام هذه الدول سوى الدخول في حوار مباشر مع إيران على شاكلة ما تفعله السعودية، وإن بشكل محدود.
في الخط نفسه (أي الخط الأول)، من المحتمل جداً أن تتوسع فكرة إدماج النظام السوري في النظام العربي، بما يعنيه ذلك من الإقرار بالنفوذ الإيراني في المنطقة، وبالعودة المستقبلية للدور السوري في لبنان ولو بشكل تدريجي.
في الخط الثاني يمكن أن نتصور سيناريو ضغط أمريكي أوروبي رهيب على دول الخليج وعلى الجزائر، لتلبية حاجات الأمن الطاقي، بحيث يمكن تصور معادلة الطاقة في مقابل الغذاء، وهي المعادلة التي تملك الولايات المتحدة الأمريكية وكندا بعض خيوطها، بحكم حاجة أغلب الدول العربية إلى الحبوب، وعدم وجود بدائل أفضل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا لتأمين هذه الحاجات الحيوية، بل يمكن أن نتصور أشكالاً درامية لهذا الضغط، في حال استمرت الحرب لمدة أطول وحقق الروس تقدماً ملموساً أكثر في أوكرانيا، وذلك بطلب تمويل حاجات الدعم لأوكرانيا، وتحريك معادلة أخرى محتملة، هي الأمن في مقابل الدعم، وذلك بالمناورة الأمريكية الذكية مع دول الخليج بملف الاتفاق النووي مع إيران.
في الخط الثالث، ويرتبط بخيارات الدول العربية في التحالف، إذ من الممكن أن تحدث فيها هزات عنيفة تغير صورة التحالفات السابقة.
خريطة التحالفات
بالأمس القريب كانت الدول العربية تدور بين ثلاثة اتجاهات تحالفية، اتجاه تحالفي استراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع الاتحاد الأوروبي بالنسبة للدول المغاربية (دول الخليج، والأردن، والمغرب)، واتجاه تحالفي استراتيجي مقابل، مع روسيا والصين (نموذج الجزائر وسوريا)، واتجاه ثالث، اعتمد تنويع الشركاء كلما شعرت بعض الدول العربية بأن الولايات المتحدة الأمريكية تستثمر شراكتها معها من أجل تقويض استقرارها القومي (نموذج بعض دول الخليج مثل السعودية وبعض دول شمال إفريقيا مثل المغرب).
السياق الحالي سيدفع إلى وضوح أكبر، ومن الممكن أن يصير الخيار الثالث (تنويع الشراكات) غير مجدٍ في مقاومة الضغوط، لا سيما إن اتجهت الحرب في سيناريو كسر العظام، والحاجة إلى توسيع دائرة الحلفاء لحسم المعركة مع بوتين، ومن الممكن أن تتجدد الحاجة لخيار قديم (دول عدم الانحياز)، لكن برؤية جديدة، يمكن لدول العالم العربي أن تستثمر الفرصة لاحتلال موقع محوري فيها.
التفاصيل الاستراتيجية المرتبطة بمستقبل الصراع العربي الإسرائيلي، والحالة اليمنية، والحالة الليبية، والحالة السورية، ستكون محكومة بالاعتبارات الاستراتيجية السابقة، فما يحدد مستقبل اليمن هو مستقبل الاتفاق النووي، وما يحدد مستقبل الحالة الليبية، والحالة السورية أيضاً هو مسارات الحرب، وحجم التأثيرات التي يمكن أن تحملها على كل من روسيا وتركيا وأوروبا (فرنسا تحديداً).
معطيات الاستراتيجية وربما حتى الجغرافيا تقول إن تركيا ستكون خياراً ضرورياً لدول العالم العربي، فعبرها يمكن أن يتم التخفف من كثير من الضغوط، وتجنب الوقوع في ضيق المعادلات المفروضة عليها من الغرب، لاسيما إن قامت تركيا بدور محوري في التفاوض بين الطرفين، وأيضاً في تجسير مرور المنتجات الروسية والأوكرانية إلى العالم.
نماذج التنمية
على مستوى النماذج التنموية فقد كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا هشاشة أشد من الهشاشة الاستراتيجية، فالثابت في كل النماذج العربية أنها لا تملك أمنها الغذائي.
يمكن أن نختصر صورة النماذج التنموية العربية في أربعة نماذج، نموذج أول يعتمد كلية على مصادر الطاقة (النفط والغاز) مع ضعف شديد في كافة الخيارات التنموية الأخرى، ونموذج ثانٍ يعتمد بشكل محوري على الزراعة، مع نقص شديد في مصادر الطاقة، واتجاه لإصلاح النموذج التنموي بالتقليص من الارتهان إلى الطبيعة، والبحث عن خيارات طاقية بديلة (الطاقات المتجددة)، ورهان على التصنيع، ونموذج ثالث يرتهن إما لعنصر الموارد البشرية (الأردن)، أو للاصطفاف إلى المحاور (نموذج لبنان)، ونموذج رابع معطوب، أهلكته حالة الصراع السياسي والاقتتال الداخلي (اليمن، العراق، سوريا، ليبيا، والسودان).
المقاربات النظرية التي كانت تقترح الاتجاه الوحدوي التكاملي لإصلاح عطب هذه النماذج التنموية لم تثمر شيئاً على واقع الأرض، بسبب الخلافات السياسية بين الدول العربية، لكن الحرب الروسية على أوكرانيا أثبتت أن أقصى أفق لهذه المقاربات النظرية الحالمة هي تخفيف بعض المعاناة، وليس حل المشكلة، فإذا كان من الممكن ضمن الإطار الوحدوي التكاملي تصور أمن طاقي عربي، فإن الدول التي تعتمد على الزراعة لا يمكن أن تحل مشكلة الأمن الغذائي العربي، فضلاً عن تلبية حاجات هذه الدول، من الحاجات الأخرى التي تنتجها الصناعات الدولية.
وإذا كان هذا هو حال النماذج التنموية فإن الخيارات الاقتصادية والمالية هي الأخرى باتت تعيش وضعية الارتهان، فقد كشفت العقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا، حجم الاختراق الغربي للاقتصادات وللأسواق المالية العربية، إذ من الممكن أن تتهاوى هذه الاقتصادات بشكل سريع، لا سيما في أجواء استمرار الصراعات السياسية بين الدول العربية.
من الممكن أن نتصور تهاوي الاقتصادات النفطية برمتها، لمجرد خروج عدد من الشركات الأمريكية والبريطانية والأوروبية المستثمرة في القطاع، ومن الممكن أن تتوقف بشكل كامل المعاملات المالية التي تحكم العمليات الاقتصادية الكبرى، وذلك في ظل غياب أي خيارات بديلة يمكن اللجوء إليها عربياً لتدبير المخاطر المحتملة.
الدول العربية تدرك كلفة عدم وجود هذه الخيارات، لكنها بدل أن تستثمر جدياً في توفيرها تضطر أن تبدد جزءاً من رصيدها الاستراتيجي، وتتنازل عن جدارات مهمة في أمنها القومي، واستقلالها السياسي والاقتصادي، في سبيل تأمين الاستقرار الهش الذي تعيشه.
على المستوى الثقافي
على المستوى الثقافي، لقد كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا، والصراع الجاري اليوم بين موسكو والغرب، وجود نماذج ثقافية متنافسة. صحيح أن موسكو تخلت بالمطلق عن أيديولوجية الاتحاد السوفييتي، لكنها اليوم تحمل أطروحتها الثقافية الخاصة، التي أعادت من خلالها قراءة تجربتها السابقة، وقامت بصياغتها بشكل يتقاطع مع الأيديولوجية الشيوعية، وينابذ الأطروحة الليبرالية.
إذاً يملك العالم العربي خيارات واسعة لبناء نموذجه الثقافي المستقل، فخبرته بصفته شاهداً على تاريخ الصراع بين المعسكرين، وعلى أعطاب السياسة الدولية، وسوء استعمال الشرعية الدولية من قبل الدول العظمى، فضلاً عن المرجعية الإسلامية التي ينتظم فيها، تسمح له ببناء أطروحة جديدة، تعيد بناء مفهوم العدل والمساواة والسلام العالمي، وتقوي مفردات الخطاب التركي، الذي لطالما حاول التأسيس لهذه المفردات، لكن بشكل منفرد، وفي صراع استراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
المستوى الأمني
على المستوى الأمني، اخترقت الدول العربية ثلاث مقاربات أمنية، الأول، يرهن الأمن بتأمين تدفق مصادر الطاقة، والثاني يرهن الأمن بتقديم خدمات أمنية تبادلية، مثل الأمن في مقابل حماية أوروبا من الهجرة غير الشرعية، أو الأمن في مقابل التنسيق لمكافحة الإرهاب، أو الأمن في مقابل مكافحة بعض التيارات السياسية، والثالث يحاول بناء منظومة أمنه القومي بالتوازنات والتحالفات الاستراتيجية.
في المجمل، في النماذج الثلاثة، ترتهن منظومة الأمن القومي العربي بالآخر، أو بخدمته، أو استثمار تناقضاته وصراعاته الداخلية، وليس ثمة أي منظومة أمنية عربية تثق في الكيانات العربية وفي تكتلاتها المختلفة.
الحرب الروسية على أوكرانيا كشفت بشكل جلي هذه الهشاشة، ففي الوقت الذي بنت فيه أوكرانيا منظومة أمنها على الغرب، وعلى خدمته، وعلى توازنات استراتيجية بين موسكو وحلف الناتو، على حساب تاريخها، ودون اعتبار لمخاطر الصراعات التي عرفها المحوران في الحرب الباردة، فإنها توشك ليس فقط أن تضيع أمنها القومي، بل توشك أن تضع وجودها بالكامل في دائرة الشك.
وأخيراً..
المحصلة في هذه الدروس أن الحرب الروسية على أوكرانيا أتاحت للعالم العربي فرصاً نادرة، يمكن الاستثمار فيها لاستدراك هذه الهشاشة، وإعادة بناء المنظومة العربية بشكل براغماتي، وذلك بالبحث عن خيارات موازية لعلاقاته الاستراتيجية مع الغرب، سواء برصد خيار تنويع الشراكات، أو لعب دور محوري في عودة دول عدم الانحياز، أو خلق كتلة عربية إسلامية (تركية باكستانية)، وتنسيق خياراتها، بالبدء أولاً بتخفيف الصراعات في محاور النفوذ، وإنهاء الخلاف السياسي حول تيارات الإسلام السياسي، والرهان أولاً على تحسين التموقع الاستراتيجي، ثم إصلاح الأعطاب الاقتصادية والتنموية من خلال جهد تكاملي، والعمل الجماعي على صياغة النموذج الثقافي المشترك الذي يمكن الخروج به إلى العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.