في عام 2014 حينما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم، دبَّ الرعب في قلوب شعب التتار الذي يسكن شبه الجزيرة، فالروس يحملون ضغينة قديمة تجاه التتار، ضغينة تاريخية أجَّجتها الحروب وكتب قائد الاتحاد السوفييتي ستالين عنوانها الأكبر بمحاولة إبادتهم، عداوة ورثتها الآلة الإعلامية السوفييتية للشعب الروسي، وهكذا بدأ كابوس جديد لشعب التتار يحرك داخلهم ذكريات الماضي الأليم الذي لا يختلف في شيء عن بشاعة ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي في الأرض المقدسة.
وهنا لكي تستطيع أن تفهم مقدار الألم الذي يحمله شعب التتار من القرم وأوكرانيا والأناضول تجاه الدولة الروسية خلال الحرب الدائرة الآن، دعني آخذك في رحلة عبر هوية ومأساة هذا الشعب الذي ينتمي لشعوبنا الإسلامية، بالمناسبة!
من هم تتار القرم؟
يقال إنه خلال القرن الثالث عشر، وصل باتو خان الحفيد المباشر لجنكيز خان مع شعبه لشبه جزيرة القرم، وهناك قهر شعوب المنطقة ودولها الصغيرة وأعلن أن المنطقة أصبحت جزءاً استراتيجياً من إمبراطورية المغول، ومن هنا بدأت العلاقات التجارية والثقافية الممتدة بين مغول القرم وروس موسكو.
وفي القرن الخامس عشر أصبح مغول القرم وتترها مجرد بقايا لمجد قديم للإمبراطورية المغولية؛ لذا سرعان ما دخلوا تحت راية الإمبراطورية العثمانية مع الحفاظ على وضع من شبه الاستقلال تحت مسمى الخان.
حكمت خان القرم شبه الجزيرة حتى عام 1783، حيث انتصرت الإمبراطورة الروسية كاثرين العظيمة على الإمبراطورية العثمانية، مستولية بذلك على شبه الجزيرة لتصبح جزءاً من امتداد الإمبراطورية الروسية.
في ذلك الوقت، خشي التتار المسلمون على حياتهم من بطش روسيا المسيحية، فبدأت الهجرة الجماعية لتتار القرم إلى تركيا، واستمرت هذه الهجرات إلى أن انتهت حرب القرم عام 1856.
بعد عام 1917 وبعد سطوع نجم الثورة البلشفية واغتيال قياصرة روسيا كانت شبه الجزيرة المعقل الأخير للجيش الأبيض الذي قاتل الشيوعيين، وبسقوطها أمام المد الشيوعي أصبحت القرم جزءاً من الاتحاد السوفييتي، ومن هنا بدأ الكابوس الحقيقي للتتار المسلمين.
الكابوس الشيوعي
خلال حكم الرفيق ستالين للاتحاد السوفييتي وقبل بداية الحرب العالمية الثانية، بدأ التسويق داخل سلك الحزب الشيوعي لفكرة التخلص من العرقيات والجنسيات والأديان التي لن تستطيع الاندماج والانصهار داخل الشعب السوفييتي النموذجي، وبالتالي تم اعتبار العرق التتري والمغولي والدين الإسلامي عناصر مضادة للشيوعية ويجب التخلص منها.
وهكذا في يوم الثالث عشر من شهر إبريل عام 1944 صدر الأمر من قيادة الاتحاد السوفييتي بأن يتم تهجير الشعب التتري من شبه الجزيرة قسراً وبالقوة إلى مناطق أخرى في كازاخستان وأوزبكستان، وكانت التهمة المعلنة لذلك الشعب أنهم عاونوا ألمانيا النازية خلال فترة احتلالها للقرم.
وعلى حسب وصف بعض الناجين: "أعطونا إشعاراً بأن أمامنا 30 دقيقة فقط! لم نكن نعلم أين سنذهب أو هل سنرى وطننا مرة أخرى يوماً ما".
بعد الإشعار تم اقتياد ما يقارب المئتي ألف من شعب التتار خارج منازلهم بقوة السلاح، الرجال والنساء والأطفال وكبار السن، تم تحميلهم جميعاً في عربات شحن للمواشي والحيوانات، ومات نصف هذا العدد في الطريق عبر سيبيريا ووسط آسيا ومات الكثير منهم أيضاً بعدها.
تم ترك هؤلاء الناس في تلك البلاد والأرض الغريبة التي لم يألفوها يوماً دون منزل أو مال أو طعام أو حتى ملابس، تم طردهم من وطنهم والتخلي عنهم في العراء عقاباً على هويتهم ودينهم الذي يعادي السرطان الشيوعي والطغيان الروسي.
ثم في يوم الرابع عشر من شهر يوليو من نفس العام، صدر قرار من قيادة الاتحاد السوفييتي باستبدال شعب التتار المنفي من شبه جزيرة القرم بواحد وخمسين ألف روسي، وهؤلاء الروس سوف يسكنون في منازل التتار المنفيين.
وبشكل غريب تتماثل هذه الاستراتيجية مع استراتيجية الاستيطان التي يتبعها الاحتلال الصهيوني مع الشعب الفلسطيني، حيث يرحلونهم من منازلهم التي امتلكوها امتداداً لأكبر أجدادهم كي تسكنها عائلات يهودية أخرى في محاولة بائسة لتغيير ديموغرافية الأرض.
ولكن الأرض لا تنسى من عاش وبكى ونزف ومات فوقها.
التغريبة التترية
أما في عام 1948، نفس عام النكبة، فكان الوضع مماثلاً هناك لما حدث في أرض فلسطين المحتلة، فقد أصدر القائد ستالين أوامره بأن تتم معاملة التتار كمهاجرين طوال حياتهم، حيث لا يمكنهم العيش داخل الأراضي السوفييتية إلا وسط تجمعات سكنية خاصة، وإن دبت قدما أحدهم خارج حدود هذه التجمعات فسيواجه عقوبة سجن لتصل لعشرين سنة داخل سجون السوفييت الكابوسية.
وهنا يمكنك أن ترى كيف يتماثل الطغيان، فالشر كله واحد، والاضطهاد دائماً اضطهاد مهما اختلف جنس المضطهد.
والآن وبعدما لم يستطع الأجداد من شعب التتار ولا أولادهم ولا أحفادهم العودة، من عاد من أبناء الأحفاد إلى الوطن أصبح يعاني مجدداً من اضطهاد الروس بعد احتلال روسيا للقرم ومحاولتها غزو أوكرانيا حالياً.
نعود مجدداً إلى عام 2014، إذ قال ريفات شوباروف، رئيس المجلس الممثل للشعب التترى في شبه جزيرة القرم، إن في ذلك العام كان يسكن الجزيرة ما يوازي الستمائة ألف تتري جميعهم قرروا عدم الاستسلام للاحتلال الروسي حتى وإن كانوا سيقاومونه بالقوة، فمنذ ذلك الوقت والمتطرفون الروس لا يتوقفون عن اضطهاد المسلمين التتريين وتدنيس ممتلكاتهم وقبورهم على غرار نموذج الاحتلال الإسرائيلي.
وعن هذا الاحتلال يحكي شوباروف الذكريات التي مرَّرها له والداه حينما تم طردهم من وطنهم عام 1944، فوالده كان في الثالثة عشرة في ذلك الوقت، ووالدته في الحادية عشرة حين تم انتزاعهما من أحضان منازلهما واقتيادهما لقرية أيسيريز في أوزبكستان.
"هناك أخبرنا أهلنا بأن علينا العمل بجد كي نعود إلى الوطن، علينا أن ندرس بمجهود أكبر وأن نعمل ونجمع المال بقدر ما نستطيع، حتى يمكننا العودة إلى هناك وشراء منزل لنا، وخلال عام 1968 عدت مع عائلتي وثلاثمائة عائلة أخرى ضمن خطة السوفييت لتحسين صورته أمام العالم، حتى يخبروهم بأنهم يعيدون من رحلوهم عن وطنهم في الماضي".
بالطبع بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك دوله، بدأت أعداد كبيرة من التتار بالعودة إلى شبه الجزيرة من المنفى، ولكن العدد الأكبر ممن تم نفيه لم يستطع العودة، فجميعهم تم دفنهم في أوزباكستان وكازاخستان.
والآن الكابوس ذاته يطارد كل فرد منتمٍ لعرق أو دين لا يمكنه التعايش مع طغيان الدب الروسي أثناء هذه الحرب الدائرة، ولكي يمكنني منحك رؤية أعمق وأقوى لذلك الكابوس أرشح لك الفيلم الأوكراني Haytarma الصادر عام 2013، وعنوانه يعني "العودة" حيث يسرد لنا قصة سلطان، الطيار المقاتل وبطل الاتحاد السوفييتي الذي ينتمي لعرق التتار، ولصدمته يشهد نفي شعبه خارج وطنه.
وفي النهاية، خلال هذه اللحظات التي أخط بها هذه الكلمات، يتسلل خبر إلى مسامعي، ويقول ذلك الخبر إن جنوداً من تتار القرم المسلمين قد انضموا إلى المقاومة الأوكرانية ضد الغزو الروسي، والآن يبدو كل شيء منطقياً، فأشباح طغيان الماضي لم تغادر الحاضر يوماً، ولا زالت تطارد كل مسلم سني تتري عانى من بُغض وكراهية الروس له ولشعبه ولدينه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.