لا يمكنك اليوم من داخل ألمانيا الوصول إلى أي وسيلة إعلام روسية، سواء على منصات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، وتويتر… إلخ) أو حتى على الشبكة العادية؛ حيث تم حظر كل تلك الوسائل بشكل مركزي رسمي، وحتى لو بحثت عنها في جوجل فلن تحصل سوى على مقالات محلية تتهم الوسائل الروسية بالكذب ونشر البروباغاندا المضللة.
لطالما ظلت دول مثل الصين أو كوريا الشمالية محط سخرية غربية لاذعة، كون الأنظمة الشمولية هناك تقوم بتحديد ما يصل إلى مواطنيها، فالدولة "الأخ الأكبر" هي الأعلم بمصلحة أبنائها، وسلامة أفكارهم من أي دعاية خارجية. وقبل سنوات تم تسليط الضوء إعلامياً على حظر الحكومة التركية لموقع يوتيوب، واعتبار ذلك جزءاً من ديكتاتورية لا تتوافق وروح العصر، أو حتى القيم الغربية الحديثة، واستخدمت هذه النقطة بالذات كورقة ضد انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي آنذاك.
لكن اليوم والحرب في أوكرانيا مشتعلة، والغرب يتحزب إلى جبهة موحدة ضد التهديد الروسي المحتمل، ترتفع عبارة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وتنسحب التحفظات الليبرالية فجأة ليحل محلها إعلام تعبوي شرس، لا يتحدث سوى عن خسائر الجيش الروسي وضحاياه، وبطولات الجنود الأوكران، والمستنقع الذي غرق فيه نظام بوتين سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ليبرز هنا تساؤل: طالما أن الأمر كذلك، وأن موسكو على شفا الانهيار، فلماذا الخشية من إعلام وترهات نظام يتهاوى وجيش يترنح؟
طبعاً معاذ الله أن نكون من أنصار المجرم بوتين أو محبيه، ذلك الذي قتل وشرد الآلاف، ودمر المدن والقرى في شامنا الجريح، أو أن نكنّ الحقد والغل على الأبرياء المسالمين من شعب أوكرانيا المعتدى عليه، ولكن الانقلاب المفاجئ وانعدام الموضوعية الإعلامية الغربية يثير في النفس شجوناً مريرة، بعضها حديث والآخر قديم.
أما حديثها، فهو ذلك الانحياز الإعلامي الغربي الفاضح مؤخراً ضد شعب أعزل محتل في القدس ومحاصر في غزة، وإظهار عدوه بمظهر الملاك المجنح، انحياز مكرر ومبالغ فيه، وصل إلى حد إقامة "المقصلة الوظيفية" أمام كل إعلامي حاول تغطية الجانب الآخر، أو حاول حتى الظهور بمظهر المحايد، آخرها كان الفصل الجماعي التعسفي لصحفيين فلسطينيين من قناة دويتشه فيله الألمانية بتهمة "معاداة السامية" الجاهزة على الدوام، بعد نبش منشوراتهم الفيسبوكية القديمة.
وأما قديمها، فهو ذلك الجانب العريض المزور من تاريخ أرض تم تهجير أبنائها قسراً ونفيهم وتشتيتهم في كل مكان، ومن ثم الخروج برواية كاذبة بعدم أصالة حقوقهم فيها. رواية مزيفة باتت مفروضة بشكل رسمي بقوة الرعاة العالميين، ورغم أنف الحقيقة الماثلة في ذاكرة المهجرين وذاكرة التاريخ نفسه.
كل هذا التزييف -المشهود عليه- في الأخبار قديمها وحديثها يملأ النفس بالريبة الكبيرة تجاه تغطية حرب قد تجر الكوكب إلى الهلاك -لا قدر الله-، تغطية يراد لها أن تكون أحادية الجانب، لتُستخدم لاحقاً في توجيه الرأي العام الغربي بالاتجاه الذي يحلو لحاكميه -أو المتحكمين فيه- السير فيه، حتى لو كان مجافياً للحكمة والمنطق.
قبل أيام، وفي حديث مع زميلة ألمانية، قرأت عليّ منتشيةً خبر وضع أحد الأثرياء جائزة قدرها مليون دولار على من يأتيه برأس بوتين، فسألتها: هل تظنين بأن مليون دولار مبلغ كافٍ لمغامرة اغتيال صاحب ثاني أكبر ترسانة عسكرية في العالم؟
أجابتني: لا يمكن إنهاء بوتين وتأمين سلامة أوروبا، إلا بالطريقة التي انتهى بها ابن لادن.
سألتها مجدداً: وهل تظنين أنه من المنطق التعامل مع رئيس دولة نووية بنفس طريقة تصفية رئيس تنظيم مطارد؟ أليس من الأعقل إنهاء هذا الصراع بأي شكل من الأشكال قبل أن ينفجر الكوكب بأكمله؟
أصرت: لا، لو استسلمنا له الآن، فقريباً سيلتهم أوروبا كاملة، يجب إنهاء بوتين فوراً، يجب قتله!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.