خلافاً لاحتجاجات قطاع البريد التي أرغمت وحدة العاملين فيه الإدارة على الرضوخ لمطالبهم بعد أن سجلوا إجماعاَ غير مسبوق لم تملك السلطة معه إلا الانصياع لهم وغض الطرف عن أي سلوك عدواني بحقهم، كما هي عادتها مع أية حركة احتجاجية، فإن المحطات النضالية الأخيرة للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد عرفت أطواراً جديدة من القمع ومن تعنت الدولة.
حيث أحالتنا مشاهد الخيول الصادمة في إحدى معاركهم في السنة المنصرمة وهي تدهس المتظاهرين إلى القرون الوسطى، حين كان يهجم السيد الإقطاعي بفرسه على عبيده ويلهب أجسادهم بالسياط، تلك الصورة هي آخر صرعة تفتقت عنها الذهنية المخزنية المخبولة التي أعياها صمود الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد الاستثنائي.
ما حدث عدوان سافر على الشغيلة التعليمية وإهانة بالغة لها من طرف من يريد تكريس علو "زرواطته" على رسالة التعليم والمعرفة، فهي ليست الأولى التي تطال الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، حيث سبق أن ذاقوا أشكالاً متعددة من الإرهاب السلطوي الذي أسفر أحدها عن استشهاد المناضل عبد الله حجيلي، كما أن تنسيقيات أخرى سبق أن اكتوت بهذا القمع حتى أضحى مشهد المدرس وهو يهان ويسحل في شوارع العاصمة وغير العاصمة مشهداً مألوفاً لا يستدعي الغضب أو الالتفات، وهو ما جرأ السلطة على تصعيد انتهاكاتها بحق هذه الشريحة المجتمعية.
المفارقة المسجلة في التعاطي مع الفئتين ليست راجعة إلى محاباة السلطة لفئة مهنية على حساب أخرى بقدر ما هي مرتبطة بمدى قابلية تلك الفئات للاستضعاف.
فرغم ما يبديه مناضلو تنسيقيات التعليم من شجاعة وإقدام في الدفاع عن ملفهم المطلبي، فإنهم يواجهون لوحدهم جهازاً منظماً يسلط العصا الغليظة والإعلام الموجه والإجراءات الإدارية التأديبية على كل محتج، وهو ما يجعل كلفة نضالهم غالية أمام نكوص زملاء المهنة عن التضامن معهم، ولو أنهم هبوا من أجل إسنادهم لتم التقليص من تلك الفاتورة بشكل كبير لقاء رفع الحيف عنهم تماماً مثلما حدث في انتفاضة البريديين الأخيرة، ولاستعاد عموم رجال ونساء التعليم هيبتهم وكرامتهم ولحسب لهم الجميع ألف حساب.
الغريب أن حالة التشرذم والفرقة تحدث في القطاع الذي يتغنى المنتسبون إليه أكثر من غيرهم بأنهم يشكلون أسرة كبيرة فيما بينهم، لكن الواقع يفضحهم ويفضح زيف ادعاءاتهم، فهم لا يتذكرون ذلك الرابط الأسري المزعوم إلا في معارك انتقائية لا تكلفهم شيئاً ولا تمتحن أنانياتهم، حيث إن ثائرتهم لا تثور إلا على كلام صحفي لا قيمة له فيقدمون دعاية مجانية له من حيث يظنون أنهم ينالون منه، أو على شبهة اعتداء على أحدهم من طرف تلميذ أو أب، فيتسرعون في إطلاق الأحكام دون تبين حقيقة ما جرى ويجيشون مواقع التواصل الاجتماعي لصالح تلك المعركة الفارغة التي يخوضها الكثير منهم بقدر كبير من الإسفاف والابتذال الذي لا يليق برسالتهم التربوية زاعمين أنهم يدافعون عن كرامتهم بهذا الأسلوب.
في المقابل، عندما تتعرض فئة منهم للتنكيل من طرف قوى القمع السلطوية الموثق بالصور والفيديوهات، فإن ذلك لا يحرك في الغالبية منهم ساكناً، بل إن بعضهم يملك من الوقاحة ما يكفي لمهاجمة زملائه المحتجين والطعن في نضالاتهم فيصطفون في خندق السلطة التي لا ينقصها من يدافع عن ممارساتها، دون أن ينالهم منها شيء سوى مزيد من الاحتقار ومزيد من الذل ومن الهوان.
الملاحظ كذلك أن جزءاً من محنة رجال ونساء التعليم يتحمل مسؤوليتها أبناء الدار، فلنتذكر أن أغلب كسالى مكاتب وزارة باب الرواح المكيفة وملحقاتها المركزية والجهوية والإقليمية هم في الأصل مدرسون، وما إن غادروا أقسامهم حتى انقلبوا على زملائهم السابقين مظهرين قدراً كبيراً من الانتفاخ والعجرفة ومتوهمين تفوقاً افتراضياً عليهم من خلال عدد من الممارسات السادية مثل الفيتو على الحركة الانتقالية الذي عمر سنوات عديدة، أو من خلال سيل من المذكرات والمراسلات الشاردة التي تعرقل السير التعليمي ولا تخدمه.
وقد فضحت الجائحة عدداً من سلوكياتهم تلك منذ بداياتها إلى اليوم، خصوصاً مع حالة الاستنفار الذي أحدثته وزارة التعليم مؤخراً وسط دركها ببعثها إياهم لتصيد ما تعتبرها مخالفات داخل الفصول الدراسية عوض طرح حلول حقيقية للحمل الثقيل الذي يتحمله الأساتذة لوحدهم في مواجهة تلاميذ ضاع عليهم ربع السنة الدراسية في فترة الحجر الصحي، وزاد ما يسمى التعليم بالتناوب الطين بلة، حين أوجد صعوبة كبيرة لديهم في استعادة الإيقاع المدرسي بعدما تم هدر ما يقارب النصف من زمنهم الدراسي، الشيء الذي حول المدرسة في زمن كورونا إلى مجرد مزار يتبرك به بالنسبة للكثيرين من المتعلمين.
المثير أن التعسفات تمارس على هذه الشريحة المهنية في غياب أية مقاومة تذكر من طرف نقابيي المركزيات الكبرى الذين يفترض أن يكونوا في مقدمة من يتصدى لقرارات الوزارة المجحفة التي يبصمون عليها وفي أحسن الأحوال يكون احتجاجهم محتشماً. كما أن اللافت هو سرعة تنزيل قرارات الوزارة المركزية مهما بلغت من سوء والاجتهاد المبالغ في ذلك، فكل دائرة رغم ما تبديه من تذمر ترمي بذلك القرار إلى الدائرة التي تليها دون أن تحاول التخفيف من وطأته أو تكييفه مع إكراهات العمل الميداني.
حري بالشغيلة التعليمية أن تصارح نفسها، وأن تكف عن إيهام نفسها بقيم تفتقر إليها، فالأولى أن تعيد ترتيب بيتها الداخلي وتقطع الطريق على الكائنات الطفيلية المتسلقة التي تستغل هذا الجو الموبوء الذي يبدو من الناحية الظاهرية أليفاً لكنه نقيض ذلك، ذلك أنه يميع العلاقة بين مختلف مكونات القطاع ويفسد معادلة الحقوق والواجبات. ويوم تزول الأنانيات ويسود الهم المشترك آنذاك ستنتفي الحاجة لأي إطراء كاذب على الذات ما دامت الوحدة مجسدة على أرض الواقع، حيث إن التوصيفات والعبارات اللغوية المفخمة حول قيمة معينة كما هو معروف غالباً ما تكون تعبيراً عن انعدامها في الحقيقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.