شكلت العقوبات الاقتصادية القاسية التي بدأ الغرب يفرضها على روسيا منذ أيام محط اهتمام دولي، وبرزت تساؤلات حول قدرة هذه الخطوات في التأثير على النظام الروسي ودفعه للتراجع عن خطواته تجاه أوكرانيا، كما امتدت التساؤلات إلى قدرة موسكو على الصمود ومناعتها السياسية والاقتصادية تجاه هكذا ضغط خانق.
برزت العقوبات الاقتصادية منذ عام 1914، أداةً لإجبار دولة ما على التراجع عن خطوة تنتهك السلم والأمن الدوليين، أو ردعها عن اتخاذ خطوات محتملة في هذا السياق، أو رداً وإدانة لخطوة ذات صلة، أو حتى أداة ضغط لمحاولة إحداث تغيير بنيوي في نظام سياسي معين.
وبالمجمل، حققت العقوبَات الاقتصادية أهدافها في حوالي 34% من الحالات التي طبقت فيها بين عامي 1914 و2000 وفق مصادر أممية ودراسات ذات صلة، لكن من المهم الإشارة هنا أن العقوبات تكون أكثر فاعلية كلما استهدفت شركاء اقتصاديين، حيث تشكل ضغطاً "تصحيحياً" إن جاز التعبير، وترتفع نسب نجاح العقوبات في حال طبقت على نظم ديمقراطية، حساسة للرأي العام ومستجيبة للشارع.
موجات العقوبات على روسيا
لا يمكن اعتبار العقوبات على روسيا حدثاً عابراً أو عادياً، إذ لم يسبق استهداف دولة بهذا المستوى الاقتصادي بعقوبات اقتصادية، فلم يسبق روسيا ذات الاقتصاد السادس دولياً، إلا إيطاليا التي تعرضت لعقوبات عام 1935، حين كانت ذات الاقتصاد الثامن دولياً، واليابان التي عوقبت اقتصادياً من الولايات المتحدة عام 1940 حين كانت صاحبة الاقتصاد السابع عالمياً.
برزت القيود على الاقتصاد الروسي بعد عام 2014، فاستهدفت الولايات المتحدة، وبشكل أقل أوروبا، الاقتصاد الروسي الذي كان يشكل النفط والغاز حوالي 70% من صادراته وحوالي نصف عائدات الموازنة الفيدرالية. جاءت العقوبات على ثلاث موجات، الأولى بعد ضم القرم وحادثة سقوط الطائرة الماليزية ودعم الانفصاليين في أوكرانيا عام 2014، وطالت أفراداً وشركات وتوسعت لتطال قطاعات الطاقة والمال والجيش.
اعتمدت وزارة الخزانة الأمريكية في هذه الموجة على نظام تحديد العقوبات SSI، والذي جاء لتأطير المعاملات الاقتصادية المحظورة في قطاعي الطاقة والقطاع المصرفي، والتي ركزت على تقييد معاملات التمويل قصيرة الأجل وتقييد الإسهام في المشاريع الروسية التطويرية، توسعت هذه العقوبات لتشمل قطاعات التعدين والسكك الحديد، لكن تطبيق هذه العقوبات كان مقنناً ومدروساً.
أما الموجة الثانية فجاءت في عام 2017، على خلفية اتهام واشنطن لموسكو بالانخراط في التأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016. إذ صعدت واشنطن من عقوباتها والتي أطرتها في قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات CAASTA.
فيما جاءت الموجة الثالثة إثر اغتيال الجاسوس الروسي سيرغي سكريبال وابنته في لندن عام 2018، وطالت روسيا ورجال أعمالها في الخارج، ومنهم مالك نادي تشلسي الإنجليزي رومان أبراموفيتش، الذي سعى للحصول على الجنسية الإسرائيلية بعد تعطيل سلطات لندن تجديد لإقامته، ولم تكن العقوبات سهلة بالنسبة لبريطانيا في ظل تجاذب حاد بين الحكومة والبرلمان خوفاً من تداعيات أية خطوات عقابية على اقتصادها وقطاعها المالي الذي استقطب حوالي 100 مليار دولار خلال العقد الفائت.
شكَّل استهداف رجال الأعمال الروس جزءاً من العقوبات الرامية للضغط على بوتين لتغيير خطواته وقراراته وعرقلة مشاريع روسيا، ولعل أبرز حملة غربية في هذا السياق جاءت من واشنطن عام 2018، حين فرضت عقوبات على 24 رجل أعمال روسياً بارزاً مقرباً من النظام، منهم أليكسي ميلير، الرئيس التنفيذي لعملاق الغاز الروسي غاز بروم، والتي تشكل رأس مشروع خط نورد ستريم 2، كما فرضت واشنطن عقوبات على مجموعة روسال للألومنيوم، ثاني أكبر منتج دولي في هذا القطاع، وعلى رئيسها وأكبر المساهمين فيها الملياردير الروسي أوليغ ديريباسكا، بذريعة شبهات انخراطه في قضية الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016.
لاحقاً رفعت واشنطن العقوبات عن الشركة -المسجلة في هونغ كونغ- لكنها أبقتها على ديرابيسكا الذي علَّق على تفتيش السلطات الأمريكية منازل أقارب له العام الماضي بأن "ترامب فاز بفضل الحمقى في واشنطن".
استراتيجية موسكو لمواجهة العقوبات
وتحت هذه الضغوط، سعت موسكو لبناء استراتيجية مناعة وطنية تجاه العقوبات، فأطلقت الروبل الرقمي بنسخته التجريبية، بإدارة البنك المركزي، وعدلت بقوانين شركاتها لتسهيل إعادة الهيكلة والإفلات من العقوبات، وسعت لاستبدال الاستثمار الأجنبي الغربي باستثمار أكثر استقراراً، من الصين والشرق الأوسط، وعملت على توطين التكنولوجيا ورفع سويتها، وسعت لتقليص احتياطها النقدي من الدولار لصالح اليورو والذهب واليوان، وتوجهت شرقاً إلى بيكين كمصدر ائتمان نقدي مستقر.
عملت روسيا أيضاً على دعم ضحايا العقوبات، وركزت على القطاعات المتضررة والمهددة، وهو ما ساعد في تعزيز ملكية الدولة التي وصلت على سبيل المثال إلى 62% في القطاع المصرفي.
عملياً، باعت موسكو حوالي 80% من سندات الخزانة الأمريكية التي كانت بحوزتها، وأصبحت نصف صادراتها باليورو، كما أطلقت نظام مدفوعات مالية محلي بديلاً للسويفت، انخرطت به حوالي 400 شركة محلية وأخرى من دول شريكة كالصين وتركيا وإيران، وقدمت بنوك الدولة في الصين قرضاً مجمعاً بقيمة 12 مليار دولار لإنقاذ مشروع "يامال غاز" الروسي، كما انخرط جهاز قطر للاستثمار في قطاع النفط الروسي واستحوذ على 18.9% من أسهم روزنفت الروسية، وهي من أكبر شركات التنقيب عن النفط والغاز في روسيا، بصفقة بلغت حوالي 10 مليارات دولار.
لكن هذه الرؤى والتصورات واجهت صعوبات عملية جمة، فلم يشكل الاستثمار الصيني 1.6% من مجمل الاستثمارات في روسيا في عام 2020 ولم تتجاوز 12.07 مليار دولار، وهي استثمارات مدروسة بعناية تخدم المصالح الاستراتيجية الاقتصادية الصينية رغم اتفاقيات الغاز التفضيلية. كما واجه توطين التكنولوجيا عالية الدقة صعوبات عملية أبطأت من قطف ثماره، كما عجزت موسكو عن مواجهة العقوبات بعقوبات مضادة لضعف التنوع في هيكلها الاقتصادي.
ورغم وصول الموازنة العامة عام 2019 إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2008، ومراكمة البنك المركزي الروسي الاحتياطي النقدي ليصل إلى الموقع الرابع دولياً، فإن الاستثمار الأجنبي انخفض بين عامي 2014 و2016 بنحو 62%، كما استمر انسحاب العملات الصعبة من السوق المحلي مع كل أزمة.
ومع تطورات الأزمة الأخيرة، جاءت موجة مغلَّظة من العقوبات شملت تجميد أصول النخبتين السياسية والاقتصادية في الغرب، بما يشمل الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس وزرائه مدفيدف ووزير الدفاع شويغو، والقادة العسكريين وجميع أعضاء البرلمان، وقادة بيلاروسيا، ورجال الأعمال المقربين من بوتين والدولة في روسيا، ومنهم صهره الملياردير شامالوف.
كما طالت العقوبات البنك المركزي الروسي، والذي يقع حتى اللحظة تحت حملة تجميد أصول في أوروبا والعزل عن أدوات أسواق المال العالمية، كما شملت العقوبات حظر عدة بنوك روسية ورجال أعمال عن نظام سويفت، وحظر عدة مؤسسات مصرفية عن النظام المالي الأمريكي، أبرزها بنك سبيربانك، ثالث أكبر البنوك الروسية، وتجميد أصول مصارف روسية أخرى مثل في تي بي، وتواصل الحظر الاقتصادي ليطال عدة شركات روسية مركزية منها روستيك، شركة الدفاع الأولى في روسيا والتي حظرت في بريطانيا.
بنيت منظومة العقوبات على ما أسست له الموجات السابقة، وطالت حظراً أوروبيا بنقل التكنولوجيا المتقدمة إلى روسيا، لكن الولايات المتحدة أبدت إصراراً على تقييد شركات الغاز الروسية، على عكس أوروبا التي حاولت تحاشي هكذا اصطدام بنيوي لكنها جاءت بحظر الطيران ليكون ضربة قوية لروسيا.
كيف نفهم العقوبات الحالية على روسيا؟
يمكن قراءة العقوبات الحالية على روسيا في ثلاثة سياقات مختلفة لكل منها هدفها، وهي سياقات الضغط والردع والتحجيم.
فعلى مستوى الضغط، تسعى العقوبات وعلى المدى القصير إلى إجبار موسكو على التراجع عن خطواتها في أوكرانيا، وموازنة التفوق الميداني الروسي بليّ ذراع اقتصادي موجع يقود لحلول متوازنة لا تلبي لموسكو مطامحها بإنهاك أوكرانيا وتحويلها إلى بيلاروسيا جديدة.
أما على المستوى المتوسط فتسعى العقوبات إلى استنزاف الاحتياطي النقدي الروسي وإنهاك الاقتصاد وتحويل ذلك إلى ضغط شعبي بسبب التضخم وما ينتج من صعوبات معيشية، فيما تسعى العقوبات على المدى الطويل إلى إحداث ضغط داخل النخبة الحاكمة قد يقود إلى تحول في آليات صنع القرار.
أما على مستوى الردع، فتسعى العقوبات إلى تعظيم ثمن أي تحرك روسي مستقبلي مشابه، ووضع العقوبات بمثابة محدد لرسم أية سياسات ذات صلة، وهذا ما يمتد إلى ما هو أبعد من أوكرانيا في حال نجح.
أما التحجيم، فمن الواضح أن حجب التكنولوجيا -حتى في مجال صناعات النفط والغاز- يسعى لمنع روسيا من تطوير هياكلها الاقتصادية وتنويعها، وبالتالي حرمان روسيا من رؤيتها بالسير إلى عالم متعدد الأقطاب أحدها موسكو، وهذا ما تثبته أيضاً محاولة خنق الاقتصاد الروسي وتجفيف موارده، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة دوماً ما انتقدت مشروع خط الغاز نورد ستريم 2، الذي يعطي موسكو الحرية ويعفيها من دفع التكلفة والاحتكام إلى أوكرانيا، التي كانت أراضيها ممراً للغاز الروسي إلى أوروبا، وبالتالي ينقل روسيا إلى موقع محتكر الغاز الحصري في أوروبا.
ما الذي قد تغيّره العقوبات؟
بالمجمل، من غير المحتمل أن تؤدي العقوبات إلى تغييرات بنيوية روسية داخلية، فالاقتصاد الروسي مصمم في فلك الكرملين، ونخبة رجال الأعمال مهندسة بشكل يدعم البوتينية التي ولد من رحمها، ومثال ذلك أليكسي ميلر- رئيس غاز بروم- والذي كان بيروقراطياً قبل تعيينه على رأس أكبر شركة غاز في العالم، أما شعبياً فلا يمكن إسقاط مقاربة تأثير الشارع على النظم السياسية على روسيا كما في السياقات الديمقراطية شديدة الحساسية للشارع.
يدرك بوتين أن الضغط الاقتصادي يرمي الى إضعاف موقفه التفاوضي لصالح حكومة كييف، وهذا ما دفعه لتصعيدٍ وصل للتلويح النووي، وهذا ما يعكس طبيعته بصفته قائداً سياسياً لا يقف قبل النهايات، وهذا ما يضعف دور العقوبات في الردع المستقبلي، إذ إن العقوبات السابقة قادت لإعادة هيكلة وإعادة تموضع اقتصادي قبل المضي في خطوة أكثر قوة.
إن تأثير العقوبات في التحجيم قد تكون فاعلة على المدى المتوسط، إلا أن القنوات الخلفية الصينية الروسية قد تساعد موسكو في تجاوز حواجز التكنولوجيا، وقد تسهم أيضاً في دعم الاقتصاد الروسي، لكن يبقى مدى هذا الدعم المحتمل من بيكين محكوم بقراءة الصين لمصالحها ورؤيتها المتمثلة بالشراكة دون تورط باهظ الثمن.
لم تفضِ العقوبات التي فرضت على الدول الكبرى سابقاً، كما في حالتي اليابان وإيطاليا إلى ثني هذه الدول عن خطواتها التي كانت تصنف في حينه تهديدات للسلم والأمن الدوليين، فهل تنجح التجربة مع موسكو ذات الخيارات الأوسع؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.