“الحكومة العالمية”.. كيف قد تؤدي الحرب الروسية إلى تغيير شكل إدارة العالم؟

عدد القراءات
665
عربي بوست
تم النشر: 2022/03/05 الساعة 15:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/05 الساعة 15:14 بتوقيت غرينتش
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين/ رويترز

الدولة أو الحكومة العالمية

الدولة أو الحكومة العالمية فكرة سياسية على مستوى دراسات العلاقات الدولية في ظل نظريات فلسفية متعددة. هذه الفكرة متجذرة في الفلسفة الغربية، وتبدأ بالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ونظريته المعنونة بنهاية التاريخ، وهي لا تعني نهاية العالم كما يظن بعض الناس. نهاية التاريخ تعني أن تطور الفكر الإنساني الاجتماعي سيصل ذروته، فيما يتعلق بالوصول إلى أمثل وأفضل نموذج للحكومة والإدارة والسياسة.

اعتبر كانط أن الحرية هي ذروة ما يناضل من أجله الإنسان، في بلوغ القمة التي لا يمكن بعدها إيجاد فكرة أمثل منها، في خضم النضال الإنساني نحو الأرقى. لكن الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل طوّر النظرية، واعتبر أن بلوغ "الإقرار أو العرفان" (Recognition) هو الذروة التي يكافح من أجلها الإنسان. فحين يحصل كل إنسان على الإقرار بحقوقه واحترامه وكينونته، فحينئذ نكون قد وصلنا إلى نهاية التاريخ بما يمثل ذروة للإنتاج الفكري الثقافي الإنساني، ولا يمكن استنباط فكرة أسمى من بعد هذه الذروة.

الفيلسوف الألماني الآخر كارل ماركس أكد مباني الفيلسوفين كانط وهيغل، لكنه اعتبر الاشتراكية والدولة العمالية هي التي تحقق هذه النهاية السامية من الحرية والإقرار، بعد أن يتخلص العمال من قيود العبودية ويقدروا على تشكيل دولة المساواة، حيث يتم توزيع الثروة بين الجميع بشكل متساوٍ، وحينئذ سيحصل الجميع على الحرية والعرفان المتبادل.

وبعد مرور حوالي ثلاثة أرباع قرن على بناء الدولة الشيوعية، وحيث لم تتحقق هذه الذروة، وفي عام 1989، وقرب انهيار الاتحاد السوفييتي (الدولة الاشتراكية)، ظهر الفيلسوف الأمريكي-الياباني فرانسيس فوكوياما ليعلن انتهاء الاشتراكية والأيديولوجية الماركسية، وبالتالي اعتبر أن الديمقراطية الليبرالية في الغرب هي نهاية التاريخ والذروة التي من أجلها يكافح البشر. ما عدا هؤلاء الفلاسفة هناك آخرون ناقشوا الفكرة وشرحوها مثل الفيلسوفين الروسيين أليكساندر كوجيف وفلاديمير سولوفيوف وآخرون.

كانط بين الدولة القومية والعالمية

في خضم شرحه لفكرة الوصول إلى الذروة المفترضة من الحرية، طرح كانط فكرة العلاقات الدولية بين الدول القومية في العالم. واعتبر كانط الدولة القومية ضرورية، للوصول إلى الحرية وبلوغ السلام العالمي. واعتبر التوازن بين هذه الدول، شرطاً أساسياً في الحفاظ على السلم والحرية. وفي المقابل، اعتبر كانط الدولة أو الحكومة العالمية (أي دولة القطب الواحد التي تحكم جميع البشرية) هي دولة استبدادية تناقض النضال العالمي من أجل بلوغ الحرية.

وخمّن كانط أن هكذا دولة وهي التي ستكون استبدادية في كينونتها وطبيعتها، ستقمع حرية الناس. وإذا ما تمت مصادرة حرية الناس وحقوقهم، فإن الناس لا يجدون مأوى يلجأون إليه هرباً من هذا الاستبداد (لقد جادل فلاسفة غربيون معاصرون هذه الفكرة ضد الاستبداد الغربي مثل جاك رانسييه، أدريان بيبرزاك، آلان باديو وسلافوي زيزاك وآخرون)، لكن منظري العلاقات الدولية في الغرب، وإذ هم يقبلون بمباني فلسفة كانط، في ما يتعلق بفكرة نهاية التاريخ كذروة للفكر الإنساني، فإنهم يقفون بالضد معه في كيفية تطبيق هذه النهاية. فهؤلاء المنظرون، يعتبرون الدولة القومية عائقاً أمام هذه الذروة، وأن الحكومة أو الدولة العالمية ضرورية حتمية، لتحقيق حصاد النضال الإنساني.

الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط

ويبرر هؤلاء تصورهم، أن الدولة القومية لا تعير القضايا العالمية كقضايا المناخ وخطورتها، وقضايا الإرهاب والسلم العالمي، أي اهتمام جدي وإن جلّ اهتمامها منصب على المصلحة القومية-الوطنية وفق نظرية "الواقعية" في العلاقات الدولية. على أن قضية الأسلحة النووية، تشكل لب رفض هؤلاء المنظرين للدولة القومية.

فهم يعتبرون أن تشكيل الدولة العالمية ضرورة حتمية، للتخلص من الأسلحة النووية وحصرها في يد حكومة واحدة، ويقولون إنه لا يمكن البقاء في السلم العالمي في ظل سباق التسلح، وامتلاك دول متخاصمة للسلاح النووي. كما يعبرون باختصار، أن الاحتماء من كارثة محتملة من استعمال السلاح النووي لا يمكن بالانتظار حتى تموت الشمس (كناية عن طول الانتظار)، فالدول القومية لن ترضى بتسليم السلاح النووي إلا إذا استحوذت عليها دولة أو حكومة عالمية تهتم بالسلم العالمي وحقوق الإنسان، بمعايير موحدة تتفق عليها البشرية.

وفي نفس الوقت تتعاظم مخاوفهم من هذا السلاح وهو بيد دول توتاليتارية ومتخلفة، من أن استعماله في أي وقت محتمل الحدوث. ومن هنا، فإنهم يعتبرون أمريكا وتوابعها من الدول الأوروبية الغربية هي المؤهلة للعب هذا الدور، وهو جمع السلاح النووي في أيديهم، لاعتبارات حضارية وقيمية لا تقبل منافساً آخر غير غربي في العالم لهذه المهمة بطبيعة الحال.

روسيا ليست جزءاً من أوروبا والغرب

لا ينظر الغربيون (الأمريكيون والأوروبيون الغربيون) إلى روسيا على أنها جزء من الغرب، ولا إلى الروس كغربيين. جغرافياً يقع من روسيا في الجزء الآسيوي حوالي 77% من مساحتها، و33% في الجزء الأوروبي الذي يفصل بينه وبين أوروبا الغربية شريط طويل من هلال أوروبي شرقي من دول كانت جزءاً من الاتحاد الروسي (السوفييتي سابقاً).

ودول هذا الهلال تتضمن إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، بيلاروس، بولندا، أوكرانيا، رومانيا وبلغاريا؛ ناهيك عن شريطٍ آخر محاذٍ للشريط المذكور ويتضمن عدة دول وهي سلوفاكيا، التشيك، هنغاريا، رومانيا، كرواتيا، صربيا، ألبانيا، كوسوفا، بوسنيا، فضلاً عن دول أخرى متفرقة في وسط هذين الشريطين وباتجاه بحر البلطيق والمتوسط والأسود. فما عدا فنلندا التي تعتبر سياسياً جزءاً من أوروبا الغربية في أقصى شمال أوروبا، لا تملك روسيا أي حدود مشتركة مع الغرب الأوروبي، بل هي على مسافة بعيدة منه. وحال دول الهلال الأوروبي الشرقي، يشبه أهل الأعراف يوم القيامة. فهذه الدول تنظر إلى روسيا كجحيم وإلى الغرب كجنة، يتعوذون من الأولى ويرجون الأخرى.

ثقافيا وتاريخياً، ظلت روسيا مختلفة ومتنافرة مع الغرب الأوروبي. فروسيا ظلت منذ القرن الثالث عشر تحت الحكم المغولي ولمدة ثلاثة قرون. وهذه الفترة تشكل حقبة هي الأهم في تاريخ أوروبا والتي فيها ترسخت صياغة الهوية الأوروبية الغربية في عصر النهضة (بدأ في إيطاليا) الذي أعقبته مراحل ثلاث جد مهمة، وهي مرحلة الإصلاحات الدينية التي بدأت شرارتها في ألمانيا، ومرحلة اكتشاف أمريكا التي انطلقت من إسبانيا (الأندلس)، ومرحلة الثورة الصناعية التي ظهرت في بريطانيا بعد اكتشاف الفحم. وهذه المراحل أفضت بالتدريج إلى مرحلة التنوير والحداثة والثورة الفرنسية، وكذلك السياقات التي احتضنت صعود الغرب قوة عالمية جارفة لغيرها على أصعدة العلم، الصناعة، التكنولوجيا، الثقافة، المال والاقتصاد… إلخ.

الدولة العثمانية
حروب الدولة العثمانية وروسيا القيصرية

روسيا التي عاشت في ظل الاحتلال المغولي لثلاثة قرون، ومن ثم في ظل النظام القيصري والإمبراطوري الروسي (وكلاهما كانا آرثوذوكسيين) على خلاف الغرب الأوروبي الذي تشكلَّ من الكاثوليك والبروتستانت، ظلت روسيا بعيدة كل البعد عن تشكُّل الهوية الأوروبية الغربية، وجوهرها الثقافي-السياسي-الديني. كما أن مرحلة الاشتراكية التي بدأت في عام 1917 في ظل الأيديولوجية الماركسية-اللينينية عمقت هذا الاختلاف والتنافر، برسوخٍ وسّعَ الشرخ بين العالمين إلى حد العداوة والخصومة التي صاغت عقلية الطرفين باتجاه اغتراب كامل ونهائي عن بعضهما البعض، بحيث ينظر كل طرف إلى الآخر كغريب وعدو محتمل في أي وقت.

أما الحرب الباردة وما أعقبها من انهيار الاتحاد السوفييتي فعمّقت هذا الاغتراب والعداوة، بشكلٍ، تجوهرت به في أوروبا وأمريكا نظرة احتقار للروس واعتبارهم متخلفين وفقراء، ونظرة عدائية ذات شعور بالنقص من قبل الروس تجاه الغرب.

الرئيس الروسي القادم من عالم المخابرات السري والمعقد، حمل معه كل هذه المشاعر والخلافات والنفور والاغتراب والعداوة، وظل يعمل على إعادة روسيا إلى سابق عهدها الإمبراطوري الذي لا يمكن فيه القبول بهيمنة أمريكا وأوروبا. هذا الرئيس هو فلاديمير بوتين الذي تسلم رئاسة الوزراء ثم رئاسة الدولة منذ عام 1999، وهو يعمل باستمرار لتوطيد روسيا كشوكة في أعين الغربيين، واليد التي تشد الخناق عليهم وتكسر هيبتهم.

الحرب في أوكرانيا وصراع الوجود والزوال

لهذا، ومنذ سنوات طويلة، يعتبر الغربُ روسيا دولة توتاليتارية (شمولية)، وفلاديمير بوتين ديكتاتوراً على شاكلة هتلر وستالين وصدام حسين. يحاول بوتين فرض إرادته عبر بوابة أوكرانيا، في حرب انطلقت شرارتها قبل أيام. لكن الخطورة الأعظم من هذه الشرارة هي أن هذه الحرب خلقت حتمية دفعت بكل الأطراف نحو نقطة اللاعودة.

فروسيا إن انسحبت من أوكرانيا فهذا يعني انسحاباً مخزياً يشبه انسحاب صدام من الكويت، وسيخلق استياءً كبيراً في روسيا ضد نظام بوتين لا يُستبعد أن ينتج انتفاضات وثورات عليه للإطاحة به. وإذا استمر بوتين في فرض غزوه لأوكرانيا، فهذا الأمر يلاقي رفضاً صارماً من قبل أوروبا وأمريكا. وفي ظل استمرار الحرب والصراع، فإن تقسيم العالم إلى معسكرين متنافرين سيكون حتمياً. أما إذا خسرت روسيا الحرب في أوكرانيا، وتقهقر الجيش الروسي نحو روسيا، فإن هيبة بوتين ونظامه تتعرض لانكسار خطير من جراء هبوب رياح الناتو من جهة الغرب، وهو ما يعني دفع بوتين إلى مواجهة الغرب والجيش الروسي وجهاً لوجه، كما فعل الغرب مع صدام حسين في عام 1991.

وهكذا الحال، يعني حتماً نهاية الاتحاد الروسي، وتقسيم روسيا الاتحادية على موجة جديدة من ظهور الجمهوريات القومية. وفي واقع كهذا، فإن احتواء الصين يصبح لقمة سائغة أو سهلة الهضم. وفي هذه الأحوال فإن ما يساعد الغرب في تحقيق هدفه نحو تشكيل الدولة أو الحكومة العالمية هو عدة أمور، منها الفقر في الدول المناوئة له مثل روسيا، الصين، كوريا الشمالية وإيران… إلخ.

كما أن التهافت والانجذاب بين شعوب العالم نحو الثقافة والمنتوجات الغربية يظلان سلاحاً خفياً بيد الغرب، في كسر إرادة الدول التي تعاديه بقوة عسكرية جبارة، دون توازن مع الجوانب الأخرى الاقتصادية والثقافية. فروسيا والصين تشبهان صورة كاريكاتورية. إذا اعتبرنا الرأس يمثل الثقافة والساعدين القوة العسكرية والرجلين القوة الاقتصادية والمالية والصدر والبطن مستوى المعيشة للشعوب؛ فإن صورة الصين أو روسيا هي كالتالي: ساعدان ضخمان جداً ومفتولان، مع رجلين نحيفتين هزيلتين، ورأس صغير غير جذاب، وبطن وصدر ضعيفين يقوسان ظهراً محدودباً، ليجسد شخصاً بائساً معدماً ما زال يتمتع بساعدين قويين يُشكّل بهما الخطورة المميتة في أي لحظة.

إذا انتصر بوتين في هذه الحرب سيؤخر الحلم الغربي في تشكيل الدولة أو الحكومة العالمية المنشودة، التي ينظّر لها كبار صنّاع القرار في أمريكا وأوروبا. أما إذا فشل وتقهقر، فإن المصير الذي فتك بصدام سيفتك به، إلا إذا استعمل السلاح النووي، وهو ما يريد صناع القرار الأمريكي-الأوروبي مصادرته واحتكاره للغرب.

هل من المعقول أن يستعمل بوتين هذا السلاح؟ إذا كانت أمريكا وهي "ديمقراطية ليبرالية" استعملته في اليابان في الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي تُقدم هي من قبل منظري الحكومة العالمية كجوهر وواجهة لفكرة نهاية التاريخ، والذروة التي يكافح البشر من أجل الوصول إليها، فما الذي يمنع بوتين من استعماله إذا خسر الحرب، وهو يعتبر ديكتاتوراً يمثل عالماً متخلفاً وفقيراً ومنبوذاً؟! ما الذي يملكه بوتين ليخسره إذا هُزم غير نفسه وأحلامه؟

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وراية تحمل صور قادة الاتحاد السوفييتي التاريخيين/ رويترز
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وراية تحمل صور قادة الاتحاد السوفييتي التاريخيين/ رويترز

تركيا والعرب في هذه المعادلة

الضحية الأولى في هذه الحرب ستكون تركيا، وسنرى في المستقبل عواقب الحرب الأوكرانية كيف ستؤثر في تركيا تأثيراً عظيماً. فأردوغان هو مثل بوتين في نظر الغرب، بل يُعتبر أسوأ منه. وينظر الأمريكيون والأوروبيون إلى أردوغان كزعيم ديكتاتور ومتعصب، لا يكنّ للغرب غير مشاعر الكره.

لكن أردوغان دخل هذه المعركة إلى جانب أوكرانيا والغرب، وتلعب طائراته البيرقدار دوراً مهماً في تدمير أرتال روسيا من المدرعات والدبابات. بطبيعة الحال، فإن تركيا ما زالت عضواً في الناتو، حتى ولو لم تكن عضويته مرغوبة فيها، بل ظلت مجمدة بصمت ولسنوات طويلة. ولو تذكرنا ما حصل أثناء إسقاط تركيا للطائرة الروسية من سكوت لدول الناتو، تجاه ما بدا من تصعيد التوتر من قبل روسيا ضد تركيا، فنتبين أن الغرب كان قد وضع عملياً عضوية تركيا في سلّة المهملات.

في هذه الحرب هناك ثلاث نتائج لا غير، كما في مباراة كرة قدم. فالنتيجة إما تعادل بين الطرفين، أي التفاوض واحتفاظ كل طرف بقوته ومكانته، وهذا مستبعد جداً في ظل معطيات واقعية وموضوعية وتاريخية. والاحتمال الثاني هو انتصار روسيا وخسارة الغرب لهذه المرحلة، دون أن تعني هزيمته. والاحتمال الثالث هو انتصار أوكرانيا، ومن ورائها الغرب، وهو يعني هزيمة روسيا نهائياً.

في كل هذه الحالات فإن الخطر القادم سيكون من نصيب تركيا. فلو تحقق الاحتمال الأول، أي التعادل بين الطرفين فمعناه أن روسيا تتوج فعلياً ورسمياً بزعامة العالم الشرقي والأرثوذوكسي، وأتباع الكنائس الشرقية، وهو عالم مناوئ للغرب. وهذا العالم الأرثوذوكسي-الشرقي يتضمن في دائرته دولاً تعادي تركيا وتبغضها. والأخطر من ذلك أن هذه الدول تحيط بتركيا إحاطة السوار بالمعصم، وهي روسيا نفسها، أرمينيا، اليونان، فضلاً عن دول أخرى مثل إيران وسوريا اللتين تتمتعان بعلاقات تصل مستوى التحالف مع روسيا. ناهيك عن المسلحين الأكراد.

وهذه الأطراف هي أطراف محاربة لتركيا، الآن وفي المستقبل. والأسوأ بالنسبة لتركيا هو أن الغرب وهو يحمل مشاعر غير ودية تجاه تركيا، فإنه على الأقل يقف موقف المتفرج، إن لم يكن يدعم بقوة أي حملة عدائية تستهدف تركيا. أما إذا انتصر الغرب على روسيا، ومن ثم تم دحر بوتين وتسليمه لرحمة الجيش والشعب الروسي المستاءين، فإن أول ملف سيبتُّ فيه الغرب بعد هذا النصر، هو ملف الرئيس أردوغان باعتباره من صنف الزعماء المنبوذين الذين لا مفر من التخلص منهم، لأنهم عقبات أمام المد الغربي وسياساته وقيمه. وليس أسهل على الغرب من تحريك دول أطراف تركيا ضدها، وتحريك مكونات داخل تركيا تم هضمهم من قبل مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك، حيث لم يستطع أردوغان التخلص من إرثه الثقيل والخطير.

الغرب يعتبر نفسه سيد العالم، ويعتبر حضارته وقيمه هي المتفوقة وهي التي تستحق البقاء، لذلك يطرح نفسه بتواضع جم وهو ينحني قليلاً، ليعطي هذه الحضارة والقيم للفقراء والمتخلفين في العالم الذين يريد الغرب وضعهم في مؤخرة العربات التي يجرها بحكومة عالمية موحدة المعايير والقيم!

أما العرب فيعتبرهم لا شأن لهم، فهم ليسوا أكثر من عمال في محطة الوقود، شغلهم الشاغل هو تعبئة الآلات الحربية للعالم بالوقود، فضلاً على تعبئة خزانات الوقود للاستعمال العام في دول الرخاء، حيث تعيش شعوب العالم الأول. ورغم أن محطة الوقود هي من ملك العرب، لكن الغرب يقول لعماله العرب إنهم يضعون مستحقاتهم في بنوكه، بينما هو يوهمهم أن الحسابات مسجلة بأسمائهم. لكن الغرب، والحق يقال، يدفع لهم بعض النقود "كاش" تكفي لتغطية نفقاتهم وعيشهم برخاء مؤقتاً.

وفي كل الأحوال، فلا قدرة لهم على التصدي لأي مستجد على الساحة العالمية، من إفرازات الحرب والسلم، ولا طاقة لهم بأي تقسيمات محتملة لخريطة الدول والشعوب. فحاجات العرب تقتصر اليوم على الخبز والأوكسجين والتبغ للمدخنين، ولا غير ذلك. لذلك، يستقلون البحر أرطالاً بأمل الوصول إلى الغرب والحصول على الرغيف هناك، فمردود محطات وقودهم يقبع هناك في بنوك الأوروبيين.      

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي سيريني
كاتب ومحلل سياسي
تحميل المزيد