لم يخطر ببال شعوب الدول الغربية وهي تحتفل بسقوط الاتحاد السوفييتي في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر/كانون الأول من سنة 1991 أن تعود روسيا الاتحادية إلى منازعة الولايات المتحدة الأمريكية دورها في قيادة العالم من جديد.
السوفييت أنفسهم ظنوا أن عهدهم ولى ونجمهم أفل لحظة إعلان تفكك وسقوط الاتحاد، وزاد ما عاشته روسيا الاتحادية من خسائر عسكرية مذلة على غرار ما حصل في الشيشان وانهيار اقتصادي متواصل من إحباطهم حينها.
وقد نشأ الاتحاد السوفييتي سنة 1922 بقيادة فلاديمير لينين قائد الثورة البلشفية، وتمكن الاتحاد المكون من 15 دولة لقرابة النصف قرن من التنافس مع الولايات المتحدة الأمريكية على ريادة العالم.
تداول على قيادته 8 زعماء أبرزهم جوزيف ستالين ونيكيتا خروتشوف وميخائيل غورباتشوف وقد اتخذوا من السلطوية الاشتراكية سبيلاً للحكم، مزجوا خلالها بين اعتماد النظريات الاقتصادية الشيوعية- التي تقوم على سيطرة الدولة على جميع وسائل الإنتاج وانتفاء مفهوم الملكية الخاصة-، ورفض مفاهيم الحرية والديمقراطية.
مثَّل الاتحاد السوفييتي قوة عسكرية ضخمة، حيث تميزت فترته بالتركيز على التنافس في التسلح مع الولايات المتحدة الأمريكية وغزو الفضاء، وهو ما كلف ميزانية الدولة كثيراً حينها. مقابل ذلك خاصة منذ بداية الثمانينات، أثّر انهيار أسعار النفط كثيراً على اقتصاد الاتحاد، وتسبب ارتفاع معدل التضخم من معاناة الشعب السوفييتي وزاد نقص المواد الأساسية من ذلك، ومع تقدم المعاناة نزعت العديد من الدول المكونة له إلى الانفصال شيئاً فشيئاً.
حصلت محاولات إصلاح هيكلية من قبل ميخائيل غورباتشوف من أجل إنقاذ اقتصاد الاتحاد لكنها فشلت، ليعلن استقالته في الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 1991 قبل يوم من إعلان تفكك الاتحاد السوفييتي على يد الرئيس الجديد لروسيا الاتحادية بوريس يلتسن.
روسيا الاتحادية ومحاولات النهوض من جديد
إثر تفكك الاتحاد السوفييتي وبعد قرابة العشر سنوات من حكم روسيا الاتحادية وصفها الروس بالحقبة الفاشلة، أنهى بوريس يلتسن عهدته الثانية بالاستقالة والاعتذار من الشعب ليخلفه رجل المخابرات فلاديمير بوتين سنة 2000.
يقول بعض الخبراء إنه في لحظة سقوط الاتحاد السوفييتي انهارت كل المؤسسات، باستثناء جهاز المخابرات (كي جي بي)، فلم تكن استقالة بوتين منه سوى خطة لإعداده رئيساً جديداً لروسيا وأن المخابرات تقف وراء استقالة يلتسن وتعيين بوتين رئيساً بالنيابة.
مع وصول فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم بدأ الدب الروسي بالنهوض من جديد وشهدت روسيا الاتحادية نمواً متصاعداً مقارنة بما كانت عليه من انهيار (زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7% في المتوسط). وعادت إلى كسب المعارك العسكرية حيث انتصر بوتين في حرب الشيشان الثانية وأوقف التمرد في القوقاز.
ساهمت هذه النجاحات العسكرية بالإضافة إلى الحرب التي شنها على الفاسدين ومراكز النفوذ الاقتصادية والسياسية والإعلامية في صنع صورة الرجل القوي الذي جاء لإعادة مجد السوفييت.
وفي الوقت الذي انشغلت فيه الولايات المتحدة الأمريكية (شرطي العالم) بإدارة العالم عبر غزو العراق وأفغانستان كانت روسيا تحاول إعادة بناء مجدها من تحت الركام.
ساهمت الثروات الهائلة التي تتمتع بها في عملية البناء، حيث يبلغ عدد سكان الدولة الأكبر من حيث المساحة في العالم (17 مليون كلم مربع) قرابة 150 مليون ساكن. وتتوفر فيها ثروات منجمية كبيرة من الفحم والحديد والألماس وكذلك ثروات طاقية هائلة من النفط والغاز الطبيعي والطاقة الكهرومائية.
وتحتل روسيا المرتبة الثالثة عالمياً في إنتاج النفط والثانية في إنتاج الغاز والخامسة في إنتاج الطاقة الكهرومائية، كما تصنف في مراتب متقدمة في الإنتاج الزراعي حيث جاءت في المرتبة الرابعة عالمياً في إنتاج الحبوب.
بوتين في وجه التحديات
حاول بوتين مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية وعيناه صوب استرجاع مجد الاتحاد السوفييتي من جديد، مراوحاً بين القوة أحياناً والدبلوماسية أحياناً أخرى. فاستعاد حلفاء قدامى على غرار بيلاروسيا والشيشان وبسط النفوذ الروسي على القوقاز إثر حرب أوسيتيا الجنوبية في 2008 وضم شبه جزيرة القرم في 2017 كما تمكن من تحقيق طموح الوصول إلى المياه الدافئة وتركيز قاعدة عسكرية في سواحل سوريا على البحر الأبيض المتوسط ولعب دوراً متقدماً في ليبيا بعد ثورة فبراير/شباط 2011.
ركزت روسيا على المحافظة على مكانتها مزوداً رئيسياً لأوروبا بالغاز، حيث تهدف أغلب تدخلاتها العسكرية إلى مواصلة ضخ غازها إلى أوروبا من خلال قطع الطريق على كل منافسة محتملة، من الخليج كانت أو من شرقي المتوسط.
ويعوّل بوتين في معاركه العسكرية على جيش استطاع أن يجعله الثاني من حيث القوة العسكرية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يبلغ عدد المنتمين للجيش الروسي قرابة الأربعة ملايين، فضلاً على قوة الاحتياط، ونحو سبعين مليون مواطن يمكن تجنيدهم في حال الحرب، كما يمتلك الجيش 63 غواصة حربية و6500 رأس نووي بالإضافة إلى 15000 دبابة.
ساهمت خلفية بوتين المخابراتية بالإضافة إلى أهمية الأمن السيبراني في المعارك الدولية الحديثة في تطوير هذا الجانب في روسيا وقد ركزت مختلف استراتيجياتها على تطوير الأمن المعلوماتي لتصبح من أقوى الدول في هذا المجال.
بعيداً عن بروباغندا الكرملين
لا تحجب هذه القوة ما يعيشه الروس من أزمات اجتماعية ونقائص في مستوى الحقوق والحريات ومعايير الديمقراطية، حيث تصنف روسيا- رغم إمكانياتها الضخمة- خارج ترتيب البلدان العشرة في مستوى القوة الاقتصادية وتناهز نسبة الفقر فيها 15% من مجموع السكان، كما تحتل مرتبة متأخرة جداً من حيث مؤشر الديمقراطية (135 من أصل 167 دولة سنة 2017) وهو ما يفسر الاحتجاجات المتواصلة على سياسات بوتين في هذا الاتجاه.
وعانت روسيا من العقوبات الاقتصادية، وقد أثرت هذه العقوبات- بالإضافة إلى تذبذب عائدات المحروقات بشكل كبير- على الاقتصاد الروسي الذي يعرف انكماشاً متواصلاً يبرز من خلال تراجع قيمة الروبل الروسي بشكل كبير خاصة بعد سنة 2014 بما أثر على القدرة الشرائية للمواطنين الروس وظروفهم الاقتصادية والاجتماعية- ناهيك عن العقوبات الجديدة في 2022 التي أطاحت بنصف قيمة الروبل بعد الأيام الأولى من الحرب في أوكرانيا.
في نهاية سنة 2015 وقَّع الرئيس بوتين على تعديلات شملت استراتيجية الأمن القومي للفترة الممتدة بين (2012 و2020)، وكان واضحاً من خلال التعديلات أن روسيا تحاول إدارة التناقض بين واقع داخلي هش وطموحات دبلوماسية وعسكرية كبيرة.
تضمنت استراتيجية الأمن القومي الجديدة مجموعة من المبادئ أهمها تعزيز الدفاع عن البلاد وتعزيز الوئام الوطني، وتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتطوير المؤسسات الديمقراطية، وتحسين نوعية الحياة.
من الواضح أن بوتين طمح من خلال هذه الاستراتيجية، إلى حجب الأسئلة المحرجة داخلياً خاصة تلك المتعلقة بالوضع الاجتماعي وأسئلة الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان دون التخلي عن تحقيق أحلامه الخارجية والعودة- بشكل أساسي- قوةً دولية بارزة وإيقاف توسع حلف الناتو في اتجاه الحدود الروسية.
عالم متعدد الأقطاب
من هذه الزاوية يمكن فهم ما يقع مؤخراً في أوكرانيا، حيث مثل توجه الجارة والشريكة في الاتحاد السوفييتي سابقاً نحو طلب العضوية في حلف شمال الأطلسي خطاً أحمر بالنسبة لروسيا بوتين، وهو ما جعله يدير الظهر لكل التهديدات العسكرية والاقتصادية ويعلن عملية عسكرية فيها.
ورغم ما خلفته الحرب القائمة في أوكرانيا من ضحايا وبشاعتها، وما بينته من تشابه بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبقية القوى الاستعمارية، فإنها وحسب عديد من الخبراء، خاصة أنها جاءت أيام بعد إمضاء اتفاقية التعاون الروسية الصينية، قد وضعت العالم في توازنات جديدة غيَّرَته من منظومة القطبية الأحادية إلى منظومة تعدد الأقطاب، من خلال بروز قوى دولية جديدة وهي روسيا والصين وقوى إقليمية منها تركيا وإندونيسيا واليابان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.