السؤال الأبرز اليوم في الصراع الأوكراني هو: هل نحن أمام حرب عالمية ثالثة؟
مما لا شك فيه أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى مجموعة من الإجابات لتشكل في النهاية الجواب الأقرب إلى الواقع، فعلياً لا أحد من الدول يذهب إلى الحرب، إنما مجموعة من الأعمال الحربية تتطور لتصبح حرباً، وذلك يعود إلى تكلفة الحروب الاقتصادية، والمادية، ونتائجها السياسية، والاجتماعية.
في التجربة الأوكرانية اليوم نرى أن الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وعلى الرغم من إمكانياتهم العسكرية الضخمة فإنهم يفضلون إلى حد كبير النأي عن التدخل المباشر بالأعمال الحربية، وذلك يعود لسببين رئيسيين: السبب الأول إدراك الدول الغربية وأمريكا أن مجرد التدخل العسكري لأي منهم هو إعلان صريح عن انطلاق الحرب العالمية الثالثة، ويعني جر الروس والدول التي تدعمهم إلى مساندتهم والرد على الدولة المتدخلة، إضافة لموقف الرئيس الروسي الواضح عن نيته استهداف أي دول تشارك بشكل مباشر في المعارك.
والسبب الثاني أن العالم وضمنه الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية لا يزال يعاني من تأثير جائحة كورونا على اقتصاده والذي أصيب بالإنهاك، وأي أعمال عسكرية خاصة بصيغتها العالمية تعني سحق عجلاتهم الاقتصادية وتأثيراتها المدمرة على شعوبهم وحكوماتهم.
التجربة التاريخية
بالعودة التاريخية إلى وضع مماثل حدث في الماضي، فإن أقرب نموذج هو أزمة صواريخ كوبا، ففي أكتوبر/تشرين الأول عام 1962 وعلى مدار ثلاثة عشر يوماً كان العالم يعيش على وقع اندلاع حرب عالمية ثالثة.
يهدد كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية باستخدام الأسلحة النووية، ففي الجزيرة الكوبية والتي لا تبعد سوى 90 ميلاً فقط من الساحل الأمريكي، التقطت طائرة أمريكية تحلق فوق كوبا صوراً تظهر بناء مواقع إطلاق صواريخ. واعتقد الخبراء الأمريكيون أنها ستكون جاهزة للعمل في غضون 7 أيام فقط!
ثم جاء الاكتشاف الأكبر لطائرة تجسس أمريكية أخرى بوجود 20 سفينة سوفييتية قد تحمل صواريخ نووية في المحيط الأطلسي متجهة إلى كوبا. وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية بكافة مدنها وعلى رأسها عاصمتهم واشنطن تحت رحمة الصواريخ النووية السوفييتية. وبدأت معها عقارب عجلة الحرب العالمية الثالثة بالدوران.
الخيارات المتاحة
وجدت القيادة الأمريكية نفسها في الأمس -كما اليوم- بين مجموعة من الخيارات، أكثرها تطرفاً كان تنفيذ ضربة جوية مع إنزال بري في كوبا وهو يعني حرباً مباشرة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، دعم هذا الخيار بقوة الجنرالات من قادة الجيوش الأمريكية، فيما انحسرت باقي الخيارات بين تجاهل الصواريخ، أو حصار كوبا أو إشراك الأمم المتحدة.
واختار الرئيس الأمريكي جون كينيدي في 22 أكتوبر/تشرين الأول أن يذهب أولاً إلى تنفيذ خيار الحصار لكوبا لمنع وصول الصواريخ التي اعتقد أنها صواريخ نووية، وأطلق على العملية منطقة الحجر الصحي.
في اليوم التالي أي 23 أكتوبر/تشرين الأول صرح الرئيس السوفييتي خروتشوف آنذاك بأن السفن لن تعود وستخرق الحصار وصولاً للجزيرة الكوبية، في 24 أكتوبر/تشرين الأول عادت السفن إلى الاتحاد السوفييتي، وفي 28 من أكتوبر/تشرين الأول بدأ السوفييت بتفكيك منصات إطلاق الصواريخ، وهنا كان السؤال الأبرز: ما الذي حدث؟
كلمة السر
للإجابة عن ماذا حدث في أواخر أكتوبر/تشرين الأول سنة 1962 بين السوفييت والولايات المتحدة الأمريكية وكيف نجا العالم فجأة من حرب نووية محتملة، علينا أن نبحث عن كلمة السر، وكلمة السر كانت "تسوية"، فخلف ستار حرب التصريحات، والتهديدات والوعيد والعقوبات كانت هنالك قناة اتصال دبلوماسية بين البلدين.
ففي الواقع لا يريد البلدان حرباً نووية عالمية، الاتحاد السوفييتي كان يخشى الصواريخ الأمريكية النووية الموجودة في تركيا، والولايات المتحدة بالطبع لا تريد أن تكون تحت رحمة صواريخ كوبا، ولكن الإشكالية الكبرى الوحيدة كانت أن البلدين يريدان أن يبدوا منتصرين، ففي 26 و27 من أكتوبر/تشرين الأول وصلت رسالتان من خروتشوف، الأولى طلب من كينيدي رفع الحصار وتعهد منه بعدم غزو كوبا مقابل إزالة الصواريخ، والرسالة في اليوم التالي قالت إن صواريخ كوبا مقابل صواريخ تركيا.
ونشر في الصحافة العالمية في 28 من أكتوبر/تشرين الأول رد الرئيس الأمريكي على الرسالة الأولى وقامت البروباغندا الإعلامية الأمريكية على اعتبار الولايات المتحدة الأمريكية المنتصرة، وظهر كينيدي أمام الرأي العام الأمريكي بأنه حافظ على وعوده الانتخابية ووقف في وجه السوفييت.
لكن كانت الحقيقة أن التسوية جاءت على الرسالتين وليس فقط الرسالة الأولى وأبقى الأمريكيون ردهم حول قبولهم إزالة صواريخ جوبيتر الخاصة في تركيا سرياً، وفرضوا على الروس إبقاء الأمر سرياً تحت مبدأ إلغاء الاتفاق في حال انتشاره، وبذلك حقق الطرفان مصلحتهم السياسية.
اليوم يشبه الوضع الأوكراني الوضع الكوبي، بعض الشيء، فقبول الروس بأن تدخل أوكرانيا حلف الناتو يعني قبولها بوجود الولايات المتحدة الأمريكية على حدودها، والأخطر بالنسبة لها أن مدينة سيباستوبول، القاعدة التاريخية للأسطول الروسي في البحر الأسود، يمكن أن تصبح مقراً أو إحدى قواعده لأسطول الولايات المتحدة السادس، وهو أقوى التشكيلات العسكرية البحرية لحلف الناتو، وهو الأمر الذي لا يمكن أن تسمح به روسيا.
هل نحن أمام حرب عالمية ثالثة؟
كلمة السر التي حصلت في أزمة الصواريخ الكوبية يمكن أن تكون كذلك في الأزمة الأوكرانية كتعهد بألا تدخل أوكرانيا حلف الناتو لمئة عام مقابل عودة روسيا إلى حدودها وتقديمها تنازلات في الملف السوري أو غيرها من الاتفاقيات السياسية.
إلا أن نسبة الوصول إلى حلول سياسية تتساوى مع فرص الحرب العالمية الثالثة، فهنالك دائماً في الإدارات شخصيات تفضل الخيار الحربي مؤمنين بأن السماح لروسيا اليوم بأن تفرض شروطها يعني بالمقام الأول تشجيعها على الطمع في المستقبل في ملفات أخرى كما يشجع ذلك أيضاً خصوم الولايات المتحدة على مغامراتهم الخاصة، لذلك حتى اللحظة بما أنه لا أحد يضمن الوصول إلى تسوية سياسية، فلا أحد يمكن أن يضمن ألا تندلع حرب عالمية ثالثة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.