بُعيد أربعة أيام فقط من بدء الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022 الجاري، ووسط غياب أي اختراق عسكري سريع، أشار بوتين إلى أنه مستعدّ لتصعيد هجومه على أوكرانيا، متخذاً خطوة غير مسبوقة للتلويح صراحةً بترسانة روسيا النووية، في محاولة لردع الدعم الغربي لأوكرانيا.
ففي ليل السابع والعشرين من فبراير/شباط أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وزير الدفاع ورئيس الأركان العامة للجيش بوضع قوات الردع النووي الاستراتيجية الروسية في حالة تأهُّب قصوى، يرى البعض أن هذا رد مباشر على الدعم الغربي الذي لم يكن يتوقعه بوتين لأوكرانيا، فيما لا يزال العديد من المراقبين يرونه أقل من المطلوب في أوكرانيا، لكن تبدو التطورات الحالية للأحداث دراماتيكية وغير قابلة للتحكم بالعديد من جزئياتها كلياً.
يحاول هذا التقرير أن يقارب الأزمة الأوكرانية الحالية مع أزمة الصواريخ الكوبية أو أزمة خليج الخنازير، واحدة من أشهر محطات الحرب الباردة في القرن الماضي، والتي كان العالم فيها على شفير حرب نووية فعلياً.
أزمة الصواريخ الكوبية.. ماذا حدث في خليج الخنازير؟
في أكتوبر/تشرين الأول عام 1962 اندلعت أزمة الصواريخ الكوبية التي ربما كانت البؤرة الأكثر سخونة في الحرب الباردة، فقد بدا العالم وكأنه على شفا حرب نووية لمدة 13 يوماً حتى عام 1959 كانت كوبا وهي جزيرة تبعد 90 كيلومتراً من فلوريدا، متحالفة بشكل وثيق مع الولايات المتحدة تحت قيادة الديكتاتور اليميني الجنرال باتيستا، وكان هناك استثمار أمريكي كبير في كوبا، والولايات المتحدة كانت المستهلك الرئيسي لما تنتجه كوبا من سكر وتبغ. وفي عام 1959 تمت الإطاحة بباتيستا في ثورة قادها فيدل كاسترو، وكانت إحدى أولى خطوات كاسترو هي الذهاب إلى الولايات المتحدة لتأمين دعم واشنطن، لكن الرئيس أيزنهاور رفض التحدث معه.
وبحسب الرواية الغربية التي تنقلها شبكة "بي بي سي"، ففي مكتب الأمم المتحدة في نيويورك تحدث كاسترو مع ممثلي الاتحاد السوفييتي الذين عرضوا دعمهم لحكومته الجديدة، ولم يكن كاسترو شيوعياً قبل عام 1960 لكنه انجذب إلى الشيوعية من خلال الصداقة والدعم الذي قدمه الزعيم السوفييتي خروتشوف وحكومته، وقام كاسترو بتأميم جميع الشركات المملوكة لأمريكا في كوبا، ورفض دفع تعويضات. وهكذا بات للولايات المتحدة دولة شيوعية "في حديقتها الخلفية".
على الفور فرضت الولايات المتحدة حظراً تجارياً على السلع الكوبية، وحرمت الكوبيين من السوق الأهم للسكر والتبغ والدخل لاستيراد النفط والسلع الأساسية الأخرى، في أبريل/نيسان عام 1961 وبعد تنصيبه مباشرة رئيساً للولايات المتحدة، وافق جون كينيدي على خطة لغزو كوبا والإطاحة بالحكم.
وأنزلت المخابرات المركزية الأمريكية 1400 من المنفيين الكوبيين في خليج الخنازير على الساحل الجنوبي لكوبا بهدف إثارة انتفاضة مناهضة للشيوعية.
وفي اللحظة الأخيرة تقريباً، ألغى كينيدي ما وعد به المقاومة الكوبية من دعم عبر القوات الجوية الأمريكية لهجومهم، وقد أدى الافتقار إلى الدعم الجوي إلى هزيمة المتمردين بسهولة عندما واجههم 20 ألف جندي كوبي مدججين بالسلاح، وتم اعتقال المتمردين جميعاً أو قُتلوا.
عزز فشل هذه الانتفاضة مركز كاسترو الذي اتفق مع السوفييت على نشر صواريخ متوسطة المدى على أراضي بلاده لردع واشنطن عن التفكير في أي محاولة أخرى لغزو الجزيرة وقلب نظام الحكم الشيوعي فيها. وبذلك صارت كوبا قاعدة عسكرية متقدمة للاتحاد السوفييتي.
في 14 أكتوبر/تشرين الأول عام 1962 التقطت طائرة تجسس أمريكية تحلق فوق كوبا صوراً تظهر بناء مواقع إطلاق الصواريخ السوفييتية.
وقدر الخبراء أنها ستكون جاهزة للعمل في غضون 7 أيام. وفي غضون ذلك، اكتشفت طائرة تجسس أمريكية أخرى 20 سفينة سوفييتية تحمل صواريخ نووية في المحيط الأطلسي متجهة إلى كوبا.
أمام هذه التطورات وفي 22 أكتوبر/تشرين الأول اختار كينيدي أن يفرض حصاراً بحرياً على كوبا لمنع السفن السوفييتية المشتبه في حملها صواريخ نووية من الوصول إلى الجزيرة.
في 24 أكتوبر/تشرين الأول، على الرغم من "كلام خروتشوف القاسي"، عادت السفن العشرين التي تقترب من الحصار أدراجها لتجنب المواجهة المباشرة مع البحرية الأمريكية.
وفي 25 من الشهر نفسه، أفادت طائرات تجسس أمريكية بزيادة وتيرة أعمال البناء في مواقع إطلاق الصواريخ في كوبا، وفي اليوم التالي تلقى كينيدي رسالة من خروتشوف يعد فيها بإزالة مواقع إطلاق الصواريخ إذا وافقت الولايات المتحدة على رفع الحصار ووعدت بعدم غزو كوبا. كما تلقى رسالة ثانية من خروتشوف تقول إن مواقع الإطلاق ستتم إزالتها فقط إذا أزالت الولايات المتحدة صواريخها في تركيا، وقد اختار كينيدي الرد فقط على البرقية الأولى بينما عرض بشكل خاص النظر في إزالة الصواريخ من تركيا.
في يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول، في رسالة عامة إلى الرئيس كينيدي أذيعت على راديو موسكو، وافق خروتشوف على إزالة جميع الصواريخ من كوبا وإعادتها إلى الاتحاد السوفييتي.
كسب كينيدي ما وعد به في الانتخابات من إبعاد الصواريخ النووية السوفييتية عن كوبا، فيما ربح خروتشوف المحافظة على النظام الشيوعي في كوبا والوعود الأمريكية بعدم التعرض له، وأنشئت خطوط اتصال مباشرة بين الدولتين استمرت لعقود وحالت دون أزمات كبرى لاحقة لعقود، بل ساهمت في الوصول لاتفاقات لاحقة حول عملية إنهاء تجارب الأسلحة النووية، أوجدت الأزمة وإدارتها بشكل جيد من قبل الطرفين استعداداً لدى الجانبين للدخول في محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية (سالت) في وقت لاحق في الستينيات.
أي اختلافات عن أوكرانيا؟
صحيح أن الاتحاد السوفييتي حينها ذهب إلى أقصى نقطة ممكنة في الفناء الخلفي للولايات المتحدة التي فرضت العديد من سياساتها منذ الحرب العالمية الثانية، بما يشبه الحماية على السياسات الخارجية لأمريكا اللاتينية، فيما كانت تفرض مع حلفائها ستاراً حديدياً على الاتحاد السوفييتي في دول شرق أوروبا بحيث تمنع التيارات الشيوعية والحكومات الموالية للسوفييت من التمدد وتعمل على إسقاطها بدعم الثورات ضدها، وصولاً لنشر صواريخ متطورة على الأراضي التركية، لكن القرب من نهاية الحرب العالمية الثانية ورؤية مأساتها وخسائرها الفادحة كانت حاضرة لدى كينيدي وخروتشوف كما هي لدى شعوب العالم على حد سواء، ولم تكن القيادتان لتتحملا صراعاً ممتداً لفترات أطول حينها.
مكمن الاختلاف هنا أن هناك صراعاً بين أطراف غير متكافئة بالمرة في سياق دولي أكثر تعددية من تلك الثنائية القطبية الصرفة في الستينات، فالصراع قائم بين دولة ليست في تحالف عسكري مباشر مع الناتو وإن كانت راغبة في الانضمام إليه.
الصراع النووي في ظل توازن الرعب
تعتبر كوبا أكثر خطورة على الولايات المتحدة مما هي عليه أوكرانيا بالنسبة لروسيا حالياً، فهناك اعتماد متبادل كبير بين الدولتين وهي تقع على مسافة أقرب مما عليه مقر الحكم الأوكراني من الحدود الروسية المترامية، كما أنها على حدود مشتركة بين أوروبا وروسيا، وهناك فارق شاسع في تعداد السكان والموارد وحاجات الأطراف الأخرى لأوكرانيا، لكن يبقى الخطر الأيديولوجي والسياسي واحداً مع تبادل الأدوار فروسيا البوتينية لا تريد نظماً ديمقراطية ليبرالية مدعومة غربياً على حدودها أو في مناطق نفوذها وقواعدها العسكرية وهي تدخلت بقوة لإثبات هذه السياسة في كل من جورجيا وسوريا وبيلاروسيا ومؤخراً في كازاخستان.
في الحرب الباردة لم يكن هناك فائز واضح أو منهزم واضح حتى عند تفكك الاتحاد السوفييتي السابق في أوائل التسعينات، في الأزمة الكوبية كانت أهداف كلا الطرفين من تدخلاته أكثر وضوحاً مما هو عليه الحال في الأزمة الأوكرانية، مما سهل عملية التواصل المباشر بشأنها، فيما تحاول الأطراف الداعمة لأوكرانيا ألا تتفاوض مباشرة مع روسيا وتضعها في موضع تفاوض مباشر غير متكافئ مع روسيا، فيما تحاول إذلال روسيا بإخراجها منهزمة من أوكرانيا بأدوات عسكرية وهو أمر لن يتقبله بوتين ببساطة، لأنه إن حدث يعني انتهاء حكمه وإذلالاً لروسيا وتحويلها لصفوف القوى المتوسطة وإخراجها من الصراع على قيادة النظام الدولي إلى أجل غير مسمى.
التهديد باستخدام الأسلحة النووية.. مَن أطلق التهديد أولاً؟
ربما يمكن فهم تصريح بوتين حول وضع قوات الردع النووي الاستراتيجية الروسية في حالة تأهُّب قصوى، في سياق الرد على تصريحات الناتو قبلها بيومين حول تفعيل قوة الرد التابعة له لأول مرة في تاريخه، كإجراء دفاعي رداً على العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا. فبحسب السي إن إن أمر القائد الأعلى للحلف الجنرال تود ولترز بتنشيط القوة متعددة الجنسيات المكونة من قوات برية وجوية وبحرية وقوات العمليات الخاصة من الحلفاء، والتي يمكن أن تنتشر بسرعة لدعم "الناتو".
وبحسب وكالة سبوتنيك الروسية المقربة من السلطات الروسية، فإن تفعيل قوات الرد لا يعني أن أي قوات أمريكية أو أخرى تابعة لـ"الناتو" ستدخل أوكرانيا، حيث إنها ليست عضواً في الحلف. أكدت واشنطن مراراً أن القوات الأمريكية ستنتشر في أوروبا الشرقية لدعم دول "الناتو" لكنها لن تقاتل في أوكرانيا.
أيضاً فإن وزير الخارجية الفرنسي والقادم من حقيبة وزارة الدفاع، جان إيف لودريان، كان قد صرح قبل بوتين بأربعة أيام قائلاً: "إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحتاج قبل أن يوجه تهديدات بشأن استخدام أسلحة نووية أن يفهم أن حلف شمال الأطلسي هو تحالف نووي أيضاً".
وإن كان هذا التصريح أيضاً هو رد على تهديد سابق وجهه بوتين لكل القوى المتحالفة مع أوكرانيا متوعداً "بتبعات لم تواجهها من قبل في تاريخها" وهو تصريح يرقى إلى مستوى التهديد باستخدام الأسلحة النووية في الصراع الأوكراني، وفُهم غربياً على هذا النحو.
في التحليل الأخير فإننا إزاء معادلة توازن رعب نووي تملك فيها أربعة من أطراف الصراع الرئيسية (الاتحاد الأوروبي- الولايات المتحدة- المملكة المتحدة- روسيا)، أسلحة نووية وقدرات تدميرية هائلة، وهو ما يجعل التهديد باستخدام هذه الأسلحة ضرباً من الجنون وخيارات بائسة أخيرة في حرب قد تنفذ كعالمية ليس أكثر، وهو خيار مستبعد ما لم تتوسع رقعة الصراع لأكثر من نقطة تماس وتتدخل فيها بشكل مباشر قوى أكبر كالصين والولايات المتحدة وأوروبا في قتال مباشر بالجنود والأسلحة لشهور وتتضح أحلافها بشكل أكبر حتى تثبت أي منها قدرتها على الحسم ورغبتها في إذلال الآخرين أو إجبارهم على الجلوس للتفاوض وإنهاء الحرب، وحتى الآن لا يبدو هذا خياراً قوياً، وإن كانت الحرب سوف تعيد تشكيل خريطة العالم وتعيد إحياء الدعوات الأوروبية لتقوية الجيوش والصناعات الدفاعية إلى أقصى حد ممكن لخلق توازن مع القوة الروسية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.