ما حدث عام ٢٠٠١ عندما نجح تنظيم "القاعدة" في توجيه ضربة قاسية للولايات المتحدة لم يكن مجرد عملية إرهابية كبيرة، بل كان إعلاناً عن ظهور نمط جديد من المقاومة في مواجهة السلطة الإمبراطورية للولايات المتحدة.
"الإمبراطورية"، كما شرحها أنطونيو نيغري ومايكل هاردت في كتابهما الشهير، ليست مجرد سيطرة حكومية مباشرة يمارسها مركز سياسي على الأطراف، بل شبكات سلطة وثروة وهيمنة تتمدد عبر العالم بنقاط تمركز ديناميكية ومتعددة.
أمام سلطة شبكية ومهيمنة بهذا الشكل لم يعد يمكن أن تتخذ المقاومة شكل حركات تحرر وطني على غرار ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية في مواجهة الإمبرياليات الأوروبية آنذاك، فقد صار على المقاومة أن تعكس شكل السلطة التي تواجهها، شبكة ذات نقاط التمركز المتعددة والمرنة، وهو ما كانت عليه "القاعدة" بالفعل.
لم تشكل "القاعدة" بالتأكيد تهديداً وجودياً للولايات المتحدة، لكنها كانت قادرة على إيذائها بالفعل، ما استدعى خروجاً أمريكياً إلى أفغانستان والعراق بقوات عسكرية واحتلال مباشر يتجاوز نموذج الإمبراطورية الذي استمتعت به الولايات المتحدة في التسعينيات.
الإمبراطورية تتحرك من بعيد وتوجه ضربات محدودة متبوعة باستراتيجيات هيمنة اقتصادية واجتماعية أعمق من التورط في الحكم.
في الواقع، كان هذا الخروج الأمريكي نفسه هو البداية الحقيقية لنهاية نمط الهيمنة الأمريكي الناجح إبان التسعينيات، وهو نمط لم يكن يستدعي حروب احتلال أو تطويقاً عسكرياً لقوى دولية منافسة كروسيا والصين، لذلك لم تكن الولايات المتحدة أصلاً مضطرة من الناحية الجيوسياسية إلى ضم جمهوريات سوفييتية سابقة إلى الناتو من أجل فرض هيمنتها على روسيا.
توسعات الناتو
عندما ضم حلف "الناتو" بولندا والمجر والتشيك في عام ١٩٩٩ كان ذلك مثار نقد داخل الغرب نفسه كونه يمثل إزعاجاً غير مطلوب لروسيا. ولا شك أن الخضوع الكامل من روسيا في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن قد شجع "الناتو" على الإقدام على تلك الخطوة دون قلق كبير. كان الأمر برمته أشبه باحتفال بالنصر الغربي الساحق منه إلى خطوة استراتيجية حيوية للناتو، وإن كان "الناتو" سينتفع بالتأكيد من تلك البلدان كمواقع متقدمة لقواته في الشرق.
لكن منذ ٢٠٠١، اندفعت الولايات المتحدة بحمى المجروح وفزع من يشعر أن أعداء غامضين يتربصون به في زوايا خفية، تضم محيط روسيا إلى حلف شمال الأطلسي.
الاندفاع الأمريكي تعزز بصعود بوتين إلى السلطة متوجاً بالعسف بالاستقلال الشيشاني والداغستاني في القوقاز بعد الحرب الشيشانية الثانية التي أهلته للإطاحة بيلتسن في "انقلاب أبيض".
في العام ٢٠٠١ أيضاً كان قد صدر كتاب "أسس الجيوبوليتيكا" للمفكر الروسي ألكساندر دوغين، وكان الكتاب يتحدث بوضوح عن محاولة لاستعادة النفوذ الروسي في مجاله الحضاري الممتد إلى عمق أوروبا وإلى وسط آسيا (أوراسيا الكبرى)، وحظي الكتاب بتقدير واسع في الأوساط السياسية والعسكرية الروسية.
كان ذلك بمثابة تقرير نظري للاتجاه السياسي الروسي الجديد المقلق بلا شك للولايات المتحدة.
وهكذا بين ٢٠٠٢ و٢٠٠٤، ضم الناتو أربع دول في شرق أوروبا علاوة على أول إطلال مباشر على روسيا عبر دول البلطيق الثلاث: ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا (صفعة لم يكن بوتين قادراً على ردها آنذاك).
منذ ٢٠٠٤ أيضاً، متشجعة بالصمت الروسي حيال البلطيق، بدأت الولايات المتحدة اتصالاتها لضم كل من جورجيا وأوكرانيا. كانت الولايات المتحدة نفسها تدرك تماماً أن ذلك قد يجر صداماً مباشراً مع روسيا، وصرح سفيرها في كييف آنذاك، ويليام بيرنز، وهو مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية حالياً للمفارقة، بأن ضم أوكرانيا هو بمثابة إلقاء للقفاز في وجه روسيا، لكن أغلب الظن هو أن الولايات المتحدة كانت تراهن على أن روسيا لن تجرؤ على الرد العسكري في تلك البلدان.
التناقض الاستراتيجي الأمريكي
هنا يظهر التناقض الاستراتيجي الذي تعانيه الولايات المتحدة منذ ٢٠٠١ إلى اليوم. أمريكا تريد الحفاظ على امتيازاتها العالمية كمركز للإمبراطورية، وهو امتياز يمنحها نصيب الأسد في استغلال البلدان التي تتوسع فيها الآلة الرأسمالية.
ذهبت الولايات المتحدة إلى العراق مثلاً بعد أفغانستان رغم عدم الحاجة إلى ذلك، ولم تخفِ المجمعات الاقتصادية السياسية الأمريكية احتفاءها بحفلة النهب التي تستعد لتنفيذها في هذا البلد النفطي.
وفي أوكرانيا، لم تتردد مساعدة وزير الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند عام ٢٠١٤ أن تقول لسفيرها في كييف إن المهم في الانتفاضة (المقصود انتفاضة "يورو ميدان" الأوكرانية عام ٢٠١٤ ضد الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش) هو أن تأتي بأرسيني ياتسنياك زعيم المعارضة المستعد لتنفيذ السياسات الاقتصادية المطلوبة منه.
لكن هذا الامتياز يتطلب للحفاظ عليه تدخلات عسكرية واسعة من الولايات المتحدة لفرض نفوذها المباشر ومصالحها الاقتصادية على حساب المنافسين الصاعدين، وهي تدخلات علاوة على تكلفتها المالية والبشرية للأمريكيين، أصبحت غير ناجعة عسكرياً؛ لأنها ستعني انتشاراً عسكرياً مفرطاً يضعف القوات الأمريكية وصدامات أعنف مع قوى أكثر كفاءة (أي الانتقال من الصدام مع قوى من حجم طالبان إلى الصدام مع روسيا مثلاً أو الميليشيات المدعومة روسياً).
هكذا سنرى على مدى عهد أوباما سلسلة ممتدة من التخبط الأمريكي. تحريض ضد روسيا في أوكرانيا يقابله تقاعس قاتل عن مواجهتها في سوريا كما في أوكرانيا.
تحريك قوات أمريكية لمحيط الصين في مقابل استعدادات مستمرة للانسحاب من أفغانستان المتاخمة لها.
في حقبة ترامب، سيستمر التناقض بين الطموح الإمبراطوري لاستعادة العظمة الأمريكية والدعوة التجارية للانعزال الأمريكي والابتعاد عن أوروبا. يجب هنا أن نعترف بأن حادثة مقتل السفير الأمريكي كريس ستيفنز في بني غازي عام ٢٠١٢، أنهى محاولة وجيزة بين عامي ٢٠٠٨ و٢٠١٢ لاستعادة سياسات التسعينات من قبل "الناتو"، وهي المرحلة التي شهدت تدخل الناتو في ليبيا.
التناقض الأمريكي يمتد على مستوى جدلي أعمق، فالتمدد الإمبراطوري الذي حظي به الغرب على مدى الثمانينيات والتسعينيات صاحبه عزوف اجتماعي عن الذهاب إلى الحرب التي فقدت معانيها الوطنية، وأخذت تتبلور ظاهرة "الحرب ما بعد البطولية" التي تخاض تقنياً بكلفة بشرية محدودة للغاية، لكن بأهداف محدودة أيضاً وبتكلفة مادية كبيرة. ومع انهيار المعسكر الشرقي، تقلص الإنفاق العسكري الأوروبي وخضعت الجيوش الأوروبية لريجيم قاسٍ لجعلها قليلة الكلفة ومناسبة في نفس الوقت لمهام مكافحة الإرهاب المحدودة.
العقيدة الجيوسياسية الروسية
في مقابل تلك الرعونة الأمريكية، كانت روسيا بوتين جادة في تنفيذ رؤيتها الجيوسياسية الجديدة عالمياً، تقوم تلك الاستراتيجية ليس على خلق أقطاب عالمية جديدة في مواجهة الولايات المتحدة خلافاً لما قد يتصور بعض المتابعين، بل على فرض احترام مناطق نفوذ البلدان الكبرى.
بعد إعادة بسط نفوذها في القوقاز باحتلال "داغستان" و"الشيشان" في الحرب الشيشانية الثانية (١٩٩٩-٢٠٠٤)، بدأت روسيا في تنفيذ سياستها الرادعة في جورجيا أيضا، وضمت إقليمي (أبخازيا) و(أوسيتيا الجنوبية) في شمال جورجيا في ٢٠٠٨ في عملية عسكرية واسعة، لكنها لم تستغرق سوى أيام.
وعندما اكتشف بوتين عبر الحرب الشيشانية أن الجيش الموروث عن السوفييت لم يعد مرنا بما يكفي لتنفيذ تلك المهمات بالكفاءة والسرعة المطلوبة لتقليل كلفتها الاقتصادية والبشرية على الروس، أطلق عملية تطوير للجيش اكتسبت شرعية أوسع بعد إخفاقات عملياتية أقرها الجنرالات الكبار في جورجيا.
هذه الشرعية نفسها سمحت لبوتين باختراق تلك المؤسسة التي كان من الممكن أن تهدد نفوذه السياسي في روسيا.
عندما قامت ثورة "يورو ميدان" في أوكرانيا عام ٢٠١٤، مثّل الاستيلاء على مدينتي (لوغانسك) و(دونتسك) الحدوديتين في شرق أوكرانيا علاوة على جزيرة القرم بروفة جيدة لما يمكن للجيش المحدّث إنجازه.
فرصة أخرى لاختبار كفاءة القوات الجوية الروسية بعد تطويرها مثلتها الحرب السورية في ٢٠١٥، ووقتها لم تكتفِ الولايات المتحدة بالكف عن التدخل، بل منعت حلفاءها من داعمي الثورة السورية، تركيا والسعودية وقطر، من مد الفصائل السورية بصواريخ ستينجر المحمولة المضادة للطائرات، رغم أن القصف الروسي لحلب كان بمثابة كارثة تستدعي التدخل الإنساني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.