مع مطلع التسعينيات كانت بداية تديُّني، ولست أدري لِمَ يرتبط التدين بالمنع والتحريم فقط؟ هكذا كانت الصورة الذهنية، مع أن الجنَّة وردت في القرآن الكريم بعدد متساوٍ تماماً مع النار 77 مرة! وكذلك الحياة والموت كان تطابق ذكر كل منهما متساوياً 145 مرةً!
وبهذا كان المنهج القرآني محافظاً على التوازن بين الترغيب والترهيب. ولذا المشهد الكوميدي الشهير الذي كتبه باحتراف يوسف معاطي "الأباجورة دي حرام، والكنبة دي حرام!" لم يكن بعيداً عن واقع بعض راغبي التدين في ذلك الحين!
في تلك الفترة كانت ذروة نجاح "روايات مصرية للجيب"، المتعة الذهنية الفائقة مع رجل المستحيل وملف المستقبل وكوكتيل 2000 وغيرها، كنت أقرأ القصة عشرات المرات وأكاد أحفظها لعدم توفر وسائل الترفيه وقتها كما هو الحال الآن!
ومع موجة التدين وانغماسي فيها؛ نصحني أحدهم بقراءة "الأدب الإسلامي" -وقد فصلتُ في مقالٍ سابق نظرتي لمفهوم الأدب الإسلامي- ومنحني رواية للدكتور نجيب الكيلاني، فتحتها على مضض وأنا أتهيأ لقراءة كتاب ديني لا رواية، ولكن.. المتعة الذهنية من أول صفحة، الثراء اللغوي من أول كلمة، عمق الشخصيات وحيويتها التي دفعتني أتلفت حولي بعد سماع صوتها بأذني، الحبكة المدهشة التي انتزعتني من عالمي وأسَرَتني، كل ذلك دفعني لاستكشاف عالم "العملاق".
ومعه تشمم أنفي رائحة البارود إبان الحملة الفرنسية مع رواية "مواكب الأحرار"، وأدركت البعد النفسي الكامل لليهود في رواية "حارة اليهود"، وسافرت معه إلى جاكرتا، بل وكنت معه في عيادته بالشارقة في الإمارات، أراه بهدوئه وصوته الشجي وهو يتحدث في رواية أميرة الجبل، وكانت تلك بداية ارتقائي من عالم التسلية إلى استكشاف عوالم جديدة وأفق أبعد بكثير مما كنت منحصراً به.
اتصف الدكتور نجيب الكيلاني، الأديب، والطبيب الذي تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، ببشاشة الوجه وروح الدعابة والتواضع الجم، وهو الخطيب المفوه بسيط النفس قوي الحجة.
قال عنه أحد أبنائه تشعر بأن خلقه القرآن، يرى الخالق في كل معاملاته، يتحامل على نفسه من أجل إسعاد أهله وذويه ولم تكن طموحاته كبيرة في الدنيا.
تحمل نجيب الكيلاني آلام مرضه دون أن يبث همه وألمه لأحد حتى أقرب الناس إليه، فقد صبر على آلام الكبد الوبائي سي ثم آلام السرطان مستمسكاً بحبل الله حتى توفي عن 63 عاماً في 2 شوال 1415 هجرياً، الموافق 7 مارس/آذار عام 1995. وقبل رحيله ترك ثلاثين فكرة لثلاثين رواية، ودونها في مفكرة صغيرة.
قال عنه "أبو الحسن الندوي" في حينه:
"معروف عنه أنه الأديب الوحيد (في زمانه) الذي خرج بالرواية خارج حدود بلده، وطاف بها ومعها بلدانا أخرى كثيرة، متفاعلاً مع بيئاتها المختلفة، فكان مع ثوار نيجيريا في "عمالقة الشمال" وفي إثيوبيا في "الظل الأسود"، ودمشق في "دم لفطير صهيون"، و"على أسوار دمشق"، وفي فلسطين "عمر يظهر في القدس"، وإندونيسيا في "عذراء جاكرتا"، وتركستان في "ليالي تركستان" والتي تنبأ فيها بسقوط الشيوعية منذ أكثر من ثلاثين عاماً!
تحولت بعض أعمال الدكتور نجيب الكيلاني الروائية إلى أعمال فنية، حيث فاز فيلم ليل وقضبان عن روايته ليل العبيد بالجائزة الأولى لمهرجان طشقند السينمائي عام 1964.
كما تحولت رواية الليل الموعود إلى مسلسل إذاعي وتليفزيوني إنتاج مصري ليبي مشترك قدّم في شهر رمضان باسم (ياقوتة ملحمة الحب والسلام) عام 1973.
كما تحولت رواية الذين يحترقون إلى مسلسل تلفزيوني مصري قدَّم باسم الرواية نفسه، (الذين يحترقون)، عام 1977.
كانت هذه نبذة عن تأثري بهذا الرجل، الذي ظُلم وكان أحق به أن يُنصف أكثر من غيره.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.