على مدى الأيام والأسابيع القليلة الماضية امتلأت الساحة بأنواع مختلفة من التنبؤات والسيناريوهات المروعة لتطور الأحداث في جميع أنحاء أوكرانيا، يتحدث الصحفيون والخبراء والسياسيون بجدية عن حتمية حرب روسية أوكرانية، وعن التحضير لانقلاب في كييف، وعن رد مدمر من الغرب، وحتى عن الصراع العالمي القادم باستخدام الأسلحة النووية.
لكن جاءت الردود الروسية الصادمة بإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، صباح الخميس 24 فبراير/شباط 2022، قرار إجراء عملية عسكرية خاصة في إقليم دونباس (شرقي أوكرانيا)، وقال إن بلاده لا تخطط لاحتلال الأراضي الأوكرانية.
وقد بدأت القوات الروسية قصف أهداف في عدة مدن أوكرانية بينها العاصمة كييف وخاركيف، وذلك بالتزامن مع عبور وحدات روسية للحدود، وبينما تحدثت موسكو عن تحييد البنية التحتية للقوة الجوية الأوكرانية وتدمير عدة قواعد عسكرية، أكدت كييف أنها كبدت القوات الروسية المهاجمة خسائر في الأرواح والمعدات.
يريد الكرملين إنهاء توسع الناتو والتراجع عن التوسعات السابقة وإزالة الأسلحة النووية الأمريكية من أوروبا، إضافة إلى خلق مجال نفوذ روسي جديد، ومع ذلك قد يقبل بوتين بأقل من ذلك، لأن الهدف الأساسي للكرملين هو ضمان أن بيلاروسيا وأوكرانيا وجورجيا لن تنتمي أبداً إلى كتلة عسكرية أو اقتصادية غير تلك التي تسيطر عليها موسكو، وأن روسيا ستكون الحاكمَ النهائي للسياسة الخارجية والأمنية للدول الثلاث، ففي جوهره يدور هذا الصراع حول ما إذا كان بإمكان الجمهوريات السابقة بعد 30 عاماً من انهيار الاتحاد السوفييتي، أن تعيش بصفة دول مستقلة وذات سيادة، أو تعترف بالسيادة الفوقية الروسية على أراضيها كما في جمهوريات الاتحاد الروسي.
ظاهرياً فإن الهدف الروسي بمنطقة نفوذ في أوروبا الشرقية وجنوب القوقاز هو تلبية المصالح الأمنية الروسية، حيث يتصور الكرملين أنَّ توسُّع حلف الناتو في شرق أوروبا بمثابة تهديد وجودي للأمن القومي الروسي من قبَل الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، الوضع الذي يجب على القيادة الروسية تصحيحه الآن، على الرغم من الحقائق والتفسيرات البديلة والمخاوف الأمنية للدول الثلاث "بيلاروسيا وأوكرانيا وجورجيا".
لذلك استخدمت روسيا القوة العسكرية لحماية مصالحها الأمنية، هذه رؤية الإدارة الروسية الحالية بقيادة بوتين لحماية أمنها القومي بالاحتلال أو السيطرة على الحكم في دول شرق أوروبا التي كانت تنضوي سابقاً تحت مظلة الاتحاد السوفييتي المنهار منذ ثلاثين عاماً.
الخيارات العسكرية الروسية في الحرب الأوكرانية
بناء على هذه الأهداف السياسية السابق ذكرها، فلدى الكرملين خمسة خيارات عسكرية محتملة:
1- إرسال القوات الروسية التقليدية إلى منطقتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين للضغط لبدء حوار سياسي، ورفض سحبها حتى تنتهي المحادثات وتوافق كييف على تنفيذ اتفاقيات مينسك.
2- الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية في أقصى الغرب مثل نهر دنيبر؛ لاستخدامها كورقة مساومة، أو دمج هذه الأراضي الجديدة بالكامل في الاتحاد الروسي، يتم تمثيل هذا الخيار في الشكل (1).
3- الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية حتى نهر دنيبر والاستيلاء على حزام إضافي من الأرض (يشمل أوديسا) يربط الأراضي الروسية بجمهورية "ترانسدنيستريا" الانفصالية ويفصل أوكرانيا عن أي منفذ إلى البحر الأسود. سوف يدمج الكرملين هذه الأراضي الجديدة في روسيا ويضمن بقاء الدولة الأوكرانية غير قابلة للحياة اقتصادياً بتطبيق الحصار عليها.
4- الاستيلاء على حزام بري من الأرض بين روسيا وجمهورية "ترانسدنيستريا" (وضمن ذلك ماريوبول وخيرسون وأوديسا)؛ لتأمين إمدادات المياه العذبة لشبه جزيرة القرم ومنع وصول أوكرانيا إلى البحر.
5- الاستيلاء على التراب الأوكراني بالكامل، والإعلان مع بيلاروسيا عن تشكيل اتحاد سلافي ثلاثي جديد للروس العظمى والصغيرة والأبيض (الروس والأوكرانيون والبيلاروسيون).
من بين هذه الخيارات الخمسة فإن الخيار الأول هو الأقل احتمالاً لفرض عقوبات دولية كبيرة، لكن فرصته محدودة لتحقيق الأهداف الروسية في قضايا الخلاف مع حلف الناتو أو اتفاقيات مينسك، لكن تجلب جميع الخيارات الأخرى عقوبات دولية كبيرة وصعوبات اقتصادية وستؤدي إلى نتائج عكسية لإضعاف الناتو أو فصل الولايات المتحدة عن التزاماتها تجاه الأمن الأوروبي، ويمكن للخيارات من الثاني إلى الخامس أن تحقق هدفاً آخر وهو تدمير الدولة الأوكرانية.
– الخيار الثاني: سيجعل روسيا تسيطر على مساحة كبيرة من الأراضي الأوكرانية لكنها ستتركها دولة قابلة للحياة اقتصادياً.
– الخيار الثالث: سيترك فقط أراضي زراعية لأوكرانيا، ولكنه يمنع احتلال أكثر مناطقها.
– الخيار الرابع: سيترك مزيداً من الأراضي الأوكرانية متحررة ولكنه سيقطع وصولها إلى البحر الأسود ويتكبد الروس تكاليف احتلال أقل.
– الخياران الثالث والرابع: الاستيلاء على حزام من الأرض من تيراسبول إلى ماريوبول، لكن هذين الخيارين معقدان، بسبب عدم وجود حواجز طبيعية أو نهر أو سلسلة جبال من الشرق إلى الغرب يمكن أن تكون بمثابة خط ترسيم طبيعي لهذه الأرضي المحتلة، وستمر الحدود الجديدة على طول هذه المنطقة عبر عدد لا يحصى من الحقول والغابات وسيكون من الصعب الدفاع عنها.
– الخيار الخامس: يعني احتلال البلد بأكمله والتعامل مع استيعاب 41 مليون نسمة قد يقاومون الاحتلال بشكل فعال لسنوات، وسيتطلب ذلك قوة عسكرية روسية كبيرة الحجم للسيطرة على السكان وإدارة الحدود الجديدة مع دول الناتو، كما أن الأوكرانيين يمكنهم أن يتذكروا فترات التهجير القسري الذي عاشته المنطقة في ظل حكام مثل كاترين العظمى، والإسكندر الثاني، وستالين، وبريجنيف، مما يستدعي منهم المقاومة بشراسة.
هل ستنجح خطة الهجوم الروسي في تحقيق أهدافها؟
بوجود عدد كافٍ من القوات البرية والقوة النارية واللوجستيات والوقت والإرادة العسكرية، فضلاً عن عدم التدخل الخارجي، فإن روسيا يمكنها المضيّ حتى يحقق جيشها أهداف الكرملين السياسية.
فالجيش الروسي يتفوق في العدد على الجيش الأوكراني، كما اكتسبت روسيا خبرة عسكرية واسعة في إجراء عمليات الأسلحة المشتركة بسوريا، وتفضل التضاريس الحرب الآلية الهجومية، ومع ذلك فإن الحساب الحقيقي للنجاح العسكري الروسي لا يمكن أن يؤخذ إلا بعد بدء صدام بالأسلحة البرية، وإضافة إلى ذلك هناك العديد من الأشياء غير الملموسة مثل الطقس، ومعارك المدن (حروب العصابات)، خصوصاً بعد إعلان وزارة الداخلية الأوكرانية توزيع الأسلحة على قدامى المحاربين والمدنيين الذين يستطيعون حمل السلاح، وذلك إضافة إلى سيطرة القوات الروسية على الأراضي الأوكرانية، والخدمات اللوجستية، والروح المعنوية التي قد تلعب دوراً مُهماً في المراحل الأولى من الحرب.
إذا كانت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مستعدين لتقديم دعم طويل الأمد للمقاومة الأوكرانية بغض النظر عن الشكل الذي ستتخذه في النهاية، وقد كان هناك بالفعل نقاش عام حول دعم الحرب غير التقليدية لأوكرانيا في حالة احتلال جزء من أوكرانيا أو احتلالها بالكامل.
ومع ذلك يجب التعامل مع هذا الخيار بفهم واضح لما يمكن تحقيقه. فلقد أثبتت روسيا تاريخياً أنها بارعة في تدمير حركات المقاومة المسلحة وإذا مُنحت الوقت الكافي يمكنها القيام بذلك مرة أخرى، وستكون أساليبها ضد المقاومة الأوكرانية سريعة ومباشرة ووحشية، فأي ملاذ تستخدمه المقاومة سواء أكان في أراضي أوكرانيا أم الناتو، يمكن أن يتعرض لهجوم روسي علني أو سري، لذلك سيتطلب الأمر حماية بقوات تقليدية كبيرة؛ لردع الأعمال الروسية في أراضي الناتو.
إضافة إلى ذلك فإن أي جزء من حدود أوكرانيا قد تحتله روسيا يمكن أن يشبه ستاراً حديدياً يتميز بالتحصينات الثقيلة كما كان جدار برلين عبارة عن حاجز خرساني شديد الحراسة، يتضمن خنادق مضادة للمركبات، وأسلاكاً شائكة، وهو ما يجعل من الصعب إنشاء خطوط إمداد للمقاومة الأوكرانية.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن تمنع أوكرانيا، روسيا من الاستيلاء على كل أو معظم أراضيها بمساعدة الولايات المتحدة وغيرها من المساعدات الدولية، فعلى سبيل المثال يمكن أن تُبقي أوكرانيا معظم قواتها المناورة بعيدة بما يكفي عن الاختراقات الروسية الأولية؛ حتى لا يتم تطويقها مع تقدم القوات الروسية غرباً، كما يجب أن تحصل أوكرانيا على معلومات استخباراتية لتحديد التوجهات الرئيسية لروسيا، وشن ضربات عميقة ضد خطوط الإمداد الخاصة بها؛ لإجبارها على وقف عملياتها، وبمجرد إيقافها يتم الهجوم المضاد عليها.
بالفعل، من الممكن أن تصمد المدن الأوكرانية أطول فترة ممكنة، ففي حالة خاركيف يقوم الجيش الأوكراني بتدمير خطوط السكك الحديدية والجسور داخل المدينة تماماً قبل الاستسلام؛ لزيادة تدهور خطوط الاتصال الروسية، وإذا اقترب الجيش الروسي من نهر دنيبر، فيمكن فتح سدوده المتعددة وغمر المناطق المنخفضة.
يحمل الوضع الحالي تشابهاً كبيراً لما حدث في عام 1979 في أثناء غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، حيث اتخذت زمرة صغيرة في المكتب السياسي الروسي القرار من تلقاء نفسها بناءً على معلومات استخباراتية خاطئة، وتصورات ضعيفة للبيئة الدولية، وسيناريوهات نجاح متفائلة، وفهم ضئيل للتكاليف السياسية والاقتصادية الدولية التي قد يواجهونها، فإن حساب المخاطرة مقابل المكاسب لتحقيق أهداف روسيا السياسية يجب أن يثنيها عن الغزو، وسيكون أفضل خيار لها هو الاستمرار في المفاوضات الدبلوماسية، ومساعدة الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا، والتوقف والامتناع عن الغزو التقليدي، ومع ذلك فقد قدَّم الرئيس بوتين مطالب وتهديدات بارزة سيكون من الصعب للغاية التراجع عنها، خصوصاً بعد بدء عمليات الغزو صباح اليوم.
سيناريوهات الدعم الأمريكي والغربي لأوكرانيا في الحرب الحالية
إن مفتاح إحباط الطموحات الروسية هو منع موسكو من تحقيق نصر سريع ورفع التكاليف الاقتصادية والسياسية والعسكرية بفرض عقوبات اقتصادية، وضمان العزلة السياسية عن الغرب، وإثارة احتمالية التمرد الطويل الذي يقضي على الجيش الروسي في هذه الحرب، قد يكون لروسيا ساعات، لكن الغرب وأوكرانيا قد يكون لديهم الوقت الكافي لحصار روسيا اقتصادياً وسياسياً، ويتضح ذلك من ردود الفعل الأمريكية والأوروبية فور بدء العمليات العسكرية الروسية بالتهديد بالعقوبات الاقتصادية الشديدة.
فإذا فشل الردع وغزت القوات الروسية أوكرانيا بالكامل، فمن المتوقع قيام الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا باتخاذ عدة خطوات فورية:
– تنفيذ عقوبات اقتصادية ومالية صارمة ضد روسيا، من ضمنها عزل البنوك الروسية عن نظام رسائل الدفع الإلكتروني العالمي المعروف باسم SWIFT، وهذا ما تم صباح اليوم، حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات على السندات الروسية، كما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على قائمة تضم 23 شخصاً روسيّاً من ذوي المناصب الرفيعة، وتشمل هذه القائمة مديرين مصرفيين وقادة عسكريين، إضافة إلى شخصيات إعلامية بارزة، ومسؤول كبير في الكرملين.
– سن قانون الإعارة والتأجير؛ لتزويد أوكرانيا بالعتاد الحربي مجاناً، تشمل البنود ذات الأولوية: أنظمة الدفاع الجوي والدبابات والسفن وأجهزة الحرب الإلكترونية وذخائر الأسلحة الصغيرة والمدفعية وقطع غيار المركبات والطائرات، وتمويل البترول والزيوت ومواد التشحيم، والدعم الطبي وغيرها من احتياجات الجيش المشارك في القتال.
ويمكن أن تحدث هذه المساعدة من خلال الوسائل العلنية بمساعدة القوات العسكرية الأمريكية، وضمن ذلك العمليات الخاصة، أو يمكن أن تكون عملاً خفياً يصرح به رئيس الولايات المتحدة وتقوده وكالة المخابرات المركزية.
– توفير معلومات استخباراتية؛ للسماح لأوكرانيا بتعطيل خطوط الاتصالات والإمداد الروسية، فضلاً عن التحذير من الهجمات الجوية والبرمائي ومواقع جميع الوحدات الروسية الرئيسية.
– تقديم الدعم الإنساني؛ لمساعدة أوكرانيا في التعامل مع اللاجئين والمشردين داخلياً. قد تحتاج هذه المساعدة أيضاً إلى أن تمتد إلى حلفاء الناتو على حدود أوكرانيا للاجئين الفارين باتجاه الغرب.
– تقديم الدعم الاقتصادي، وضمن ذلك الطاقة لأوكرانيا وحلفاء الناتو، بسبب التعطيل المتوقع لتدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا.
– الدعم الدبلوماسي وتقديم خدمات البث الإعلامي إلى أوكرانيا والعالم لتصوير ما يحدث، وممارسة الضغط الدبلوماسي على بيلاروسيا؛ لمنع روسيا من الوصول إلى أراضيها لمهاجمة أوكرانيا، وهذا مهم للغاية، لأن استخدام روسيا شبكات السكك الحديدية والطرق في بيلاروسيا سيهدد بحدوث تحول استراتيجي في الجناح الشمالي للحدود الأوكرانية.
– تقوم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالتنسيق مع منظمات المجتمع المدني والمحكمة الجنائية الدولية لتوثيق جميع جرائم الحرب التي ارتُكبت بحق الشعب الأوكراني والمطالبة بالتعويض بمجرد انتهاء الحرب.
فدول مثل روسيا والصين معجبة بالقوة العسكرية ولا تحترم الضعف العسكري، مما يجعل الأزمة من الممكن أن تتحول لصراع بين الأنظمة الاستبدادية والأنظمة الديمقراطية، لكن إذا وقفت الديمقراطيات الغربية معاً في التزام صارم بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، فإن تأثيرها لتعزيز هذه المبادئ سيكون هائلاً.
فنأمل أن يسود إعمال العقل في موسكو، وألا تغزو روسيا أوكرانيا بالكامل، ومع ذلك إذا كان هناك غزو فيجب على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها أن يكونوا مستعدين لدعم المقاومة الأوكرانية، لأن انتصار روسيا في هذه الحرب سيكون له التأثير الأقوى على الأمن الأوربي، خصوصاً ظهور مؤشرات تفكك الاتحاد الأوربي مثل انسحاب بريطانيا من الاتحاد، ومطالبة ألمانيا بسحب الترسانة النووية الأمريكية من أراضيها، وكذلك ظهور مؤشرات تقارب وتفاهم بين اليونان وروسيا بعد وصول أحد الأحزاب اليسارية للحكم في اليونان، إضافة إلى تراجع التأثير الأمريكي على القرار الأوربي، والاتجاه لإنشاء تحالفات جديدة تمثل الإنجلوساكسون بين كل من بريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة والتي اتضحت في أزمة الغواصات الفرنسية مع أستراليا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.