"العالم متعدد الأقطاب"، صارت تلك حقيقة راسخة في النظام العالمي الجديد، خصوصاً لدى الباحثين في الجغرافيا السياسية، والمراكز السياسية العالمية، حتى النخب الأمريكية في مراكز الدراسات الاستراتيجية أصبحت لديهم قناعة بأنه لم يعد هناك مكان للأحادية القطبية في العالم، التي كانت تتبناها بلادهم.
البيان الصادر عن الرئيسين الصيني والروسي في أعقاب افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في "بكين"، مطلع الشهر الحالي، عن رصد انتهاكات جسيمة لكل المواثيق الدولية من خلال سياسات واشنطن وحلف الناتو له دلالات هامة، بشأن الوقوف في وجه الهيمنة الأمريكية وتفكيك قدراتها العسكرية، ورفض سياستها التي لا تلتزم بالقوانين الدولية. وهو بحد ذاته تأكيد على احترام قوتين دائمتي العضوية في مجلس الأمن، واحترام قدراتهما العسكرية بصفتيهما لاعبين دوليين كبيرين، وعدم شيطنة نشاطيهما في الملفين التايواني والأوكراني. وعليه فإن الإعلان "الروسي الصيني" كان بمثابة تحالف دفاعي في مواجهة الهستيريا الأمريكية وسياستها العدوانية.
النظام العالمي الجديد
ففي غضون الأزمة الراهنة في أوكرانيا، تردد في الأوساط الإعلامية سيناريو حرب الخليج واسم "صدام حسين" وسقوط جدار برلين، ليتذكر العالم ما حدث في أغسطس/آب عام 1990، بعد أيام من دخول الأزمة باجتياح القوات العراقية للكويت، فوجه الرئيس الأمريكي "جورج بوش" خطابه للأمة الأمريكية قبل إرسال قواته إلى الخليج، استخدم فيه مصطلح "النظام العالمي الجديد"، وجاء ذلك في سياق خطابه عن فكرة (عصر جديد) وحقبة جديدة وعصر للسلام بين الشعوب. ليفهم العالم على مدار السنوات الثلاثين التالية من خلال السياسة الأمريكية ما كان يقصده بوش.
ويشهد العالم الآن مرحلة انتقالية شديدة الدقة والخطورة من الهوس والذعر، بين حرب هيستيرية من الإعلام الأمريكي، وحرب لاستعراض القوة العسكرية والتقنية الروسية في وقت واحد، مع تراجع الهيمنة الأمريكية بداية من الانسحاب المهين من أفغانستان إلى التخبط في السياسة الخارجية الدولية في ملفات شائكة في الشرق الأوسط وإيران وكوريا، والحرب الاقتصادية مع الصين وصراع غاز شرق المتوسط، ومناطق أخرى.
أدى ذلك كله إلى ظهور نظام دبلوماسي صاعد جديد متعدد اللاعبين والفاعلين، يذهب بنا إلى المفهوم ذاته- النظام العالمي الجديد- للمضي نحو مرحلة انتقالية سوف تشهد في النهاية نهايةَ تاريخ الهيمنة الأمريكية، من نظام "أحادي القطب"، لنرى النظام العالمي الجديد نظاماً متعدد الأقطاب، مع وصول روسيا والصين منافسين ولاعبين دوليين في النظام العالمي الجديد والسياسة الدولية بقوة.
إننا الآن أمام أخطر مراحل التحول في النظام الدولي، وللأسف على وقع الأزمة الأوكرانية يقع الكثير في مغالطة أن ما يحدث هو غزو روسي لأوكرانيا، لكنه في الأساس تحول في العلاقات الدولية وخريطة العالم الجديد، ليبقى على الولايات المتحدة أن تتقبل نظاماً عالمياً جديداً متعدد الأقطاب، بدون مواجهة عسكرية للحفاظ على مكانتها، ولكي تطيل أمد بقائها قوةً أساسية لاعبة في النظام الجديد.
إن الحالة الجنونية في الصراع الدائر الآن بين تلك الأقطاب يمكن أن يخلق نقلةً في تاريخ للبشرية، ولقد استطاعت الولايات المتحدة بجعل حلفائها يسحبون بعثاتهم الدبلوماسية ورعاياهم من العاصمة الأوكرانية "كييف"، أن يحددوا موعد الحرب يوم 16 فبراير/شباط، يوم العيد الوطني لأوكرانيا، وينقلوا للعالم صوراً عبر الأقمار الصناعية للحشود العسكرية الروسية في الغرب والجنوب لأوكرانيا، وهم يتحدثون عن فرض حصار اقتصادي على روسيا قبل وقوع الحرب.
تشاهد كأنك في سيرك أو على خشبة مسرح، تستخدم أمريكا هذا الأسلوب الذي استخدمته من قبل في العراق عن وجود أسلحة دمار شامل، وكذلك في سوريا من استخدام سلاح كيماوي، والآن تلعب السيناريو نفسه في شرق أوروبا لتتيح لنفسها التدخل، مقابل التدخل الروسي، ومواجهة بين النظام الأحادي، والنظام متعدد الأقطاب. فهناك سعي من القوى الصاعدة للوقوف بوجه الهيمنة الأمريكية، سعياً إلى نظام متعدد الأقطاب.
بوتين يستخدم هذه التهديدات والطريقة في فرض نفسه، ليس للمرة الأولى، تماماً مثلما تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية الهستيريا الافتراضية للمرة المئة في تاريخها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.